استطلاع: محمود عبدالله
لا يمكن الجمع بين الرشاقة السردية والترهل الحكائي فكلاهما مناقض للآخر، ومتى ما اختفت وتوارت الرشاقة السردية ظهرت الثرثرة ويجري في ركبها الترهل في الأحداث والحوارات ومن ثم يعاني القاريء من الملل وتختفي الدهشة، فما هي الأسباب التي أوقعت الروائيين الجدد في شرك الترهل السردي؟ هذا ما تحاول أن تجيب عنه " أحوال المعرفة" من خلال استطلاع آراء عدد من المختصين في النقد والسرد.
الرواية فن إبداعي
في البداية تؤكد الدكتورة أسماء الأحمدي، أكاديمية وناقدة، أن الرواية كنص سردي تطلعنا على ثقافة الشعوب وتاريخها، وإن لم يكن يقصد بها ذلك؛ إذ يمكنها قول مالم يقله التاريخ- بلغته الراصدة المباشرة-؛ إذ ما نلمسه في الكثير من الروايات العربية، بوصفها نسقا إبداعيا لا ينفصل عن السيرورة الكتابية للإبداع المرتبط بالإنسانية وبث الإشكاليات المتعلقة بها، من خلال اختزالية المرحلة بفعل قراءة ذات ورؤية خاصة تحاول الاطلاع على المجتمع من أعلى؛ إذ نجاح الرواية هو طرح للإشكاليات - اللاواعي- خالفا للتاريخ، وقوفها على الذات والآخر من خلال جانبين:
الأول: نفسي، والآخر: اجتماعي وهو ما يفقده التاريخ؛ إذ لا يمتلك المقدرة على الإصغاء والإفصاح عن الأصوات المبهمة والمغيبة.وبما أن الرواية فن إبداعي يثير الكامن والمسكوت عنه إعلانا وبثا ومكاشفة، يعكس الواقع في صورة أشبه بمكبر يظهر العروق المغيبة خلف الأجساد وفي جوف الحياة، يضخمها.. يمددها.. يعيد صياغتها.. ترتيبها وتصنيفها، تحليلها بفكر فلسفي يتبع لرؤية السارد وتمكنه، إنها صفحات راسخة في التاريخ، يمكن العودة إليها لرصد المسيرة، وحصر الأحداث الحاسمة في المجتمعات لدقتها، وجودتها نقلة وسيرورة في رسم والشعوب، تمث نظام كتابي إبداعي، يضيف إلى تمددا ونهضة في الفن الروائي، ويدفع بها إلى السطح، قراءة ودراسة ونقدا؛ مما يؤثر في الوعي الحياتي للمجتمعات.
وترى الأحمدي أن الرواية ممكن أن تأتي في المرتبة التالية بعد المسرح فيما تثيره وتحدثه من فكر وتنمية للإنسان توسيعا لحدقة الفكر وترقية لخطى التحرر والانعتاق من أسر النظم التقليدية والانكفاء الخانق؛ حسرا للتقدم والتحرك، والتجرد من رداء النمطية. مشيرة إلى أن الكمون الروائي يعني التفلت والانفلات من ضوابط الكتابة المسؤولة، والرؤية الواضحة، والحرف السليم، قوام ذلك الإعداد وانعدام الثقافة، وتخبط الذوات الكاتبة والمكتوبة، لغة، وحدثا، وأزمنة، وأمكنة، وشخصية . أما أن نعلن ذلك الترهل يعني المواجهة الحقة، والاعتراف البين، والإقرار بالضعف مع ضرورة الحسم، والبت الجاد لتلافي تلك الهوة، والخروج من مأزق التراجع.، مما أوقع الرواية العربية في منحدر التضخم (الكم مقابل اضمحلال الكيف).
الكتابة اللامسؤولة
وتعدد الدكتورة الأحمدي أسباب الترهل في الرواية العربية ومما ذكرته:الاندفاع نحو الكتابة اللا مسؤولة، الرغبة في الشهرة والتسويق للذات، بعيدا عن التمكن من أسس الكتابة وشروطها. ومن هذه الأسباب أيضا التواطؤ بين الناقد والكاتب، والعلاقات المزعومة.المضللة بينهما؛ ووقوعهما تحت ما يسمى بالفساد النقدي؛ فإن ذلك يقودنا إلى جهة أخرى وشكل آخر من الفساد. ذلك ما يتعلق بدور النشر والفساد النشري المنقسم بتشكلاته إلى: -1 فساد الاستشراء (خارجي)، 2 - فساد التقِتير (داخلي). إذ قبل أن نلقي باللائمة على الكاتب والناقد ينبغي أن نحاكم دَور النشر المسوقة للتشوه الكتابي، وربما هذا التوصيف لا يحدث جناية إذ ما تتبعنا بعضا من النصوص التي هي في الحقيقة مفسدة للذائقة السليمة ومنفرة لها على سمو الأدب وحقيقته. فدور النشر وتجاوزاتها في نشر الغث يجعلها تقع تحت المساءلة الحتمية، نظرا إلى ما تجنيه أمانتها العلمية والثقة القرائية الموهبة لها؛ وباعتبار القارئ أحد أعمدة استمرارية الدور في مواصلة نتاجها وانتشاره من عدمه، وقد يصبح أهم تلك الأعمدة إذ له من الإمكانيات ما يعول انتشار الكتاب؛ كمادة قرائية تنهض بفكر الشعوب، وتثري الفكر المعرفي لدى الأجيال. ذلك الفساد الذي يجعل القارئ يقف على نص أجوف، فلا إشكاليات وجودية، إذ الشخصيات هشة وسطحية، وبلا خلفيات إنسانية ولا أبعاد درامية، كما يشترك الإعلام الهزلي الذي يتغاضى عن الأعمال الجيدة؛ ليقدم الركيك ويطبل له. وتظهر إشكالية الفساد النشري/ التقتير (داخليا) للروايات لدى دور نشر، يعود ذلك إلى أمرين:
أولا : ضعف الدعم الذي تناله دور النشر المحلية، أو نتيجة للغلاء وتعقيد شروط النشر التي تحدث عزوفا لديهم. وثانيا: خروج النصوص الروائية على المحاذير وما يعرف باختراق التابو وكسره، ورفض الدور المحلية للنشر، خوفا من الوقوع في دائرة الاتهام للتسليع والتسويق – من قبل المجتمع والمؤسسات الثقافية- للزيف أو النص الحسي/ الجسدي في صورة مبتذلة خارقة للأنظمة الداخلية. ربما يمكننا القول: إن الرواية لا تحظى بدعم محلي- ملموس - من دورالنشر، والمؤسسات الثقافية، يستوي في ذلك الروايات الجيدة والروايات الرديئة!
تكرار وحشو وثرثرة!
الروائية الجزائرية، ربيعة جلطي، تبدي امتعاضها من الحال التي وصلت إليها الرواية العربية حيث تذهب إلى أن أغلب الروائيين العرب يكتبون دون اقتصاد في اللغة، ينفخون في بطن اللغة العربية المسكينة ما شاؤوا من اللغو. حتى أصبح كثير من الروايات لها كروش متدلية.والروائي العربي ثرثار وثرثرته غير مبدعة، إنه يدور حول الحياة إلا أنه لا يقول الحياة. فالتكرار والحشو اللغوي والثرثرة الزائدة دون معرفة الرواية من بين الأسباب التي جعلت الرواية العربية تسير ببطء إن لم نقل قابعة في مكانها دون أن تعبر الجسر لتثير الآخر. ولعل هذا الانتفاخ والترهل اللغويين الخارجين عن بناء الرواية جعلا كثيرا من الروايات العربية حين تترجم إلى لغات خرى لا تثير القارئ في الثقافات الأخرى المستقبلة.
شلل ونصوص مبهرجة
وترى جلطي أن نصوص المبهرجة فقط من الخارج لا تغري أحدا بالإقامة داخلها. كما أن الإنشاء الروائي العربي إنشاء غير مثير للقارئ الآخر حتى الآن، مع أن كثيرا من الأسماء تزكيها ”الشلة“ التي صنعتها في ”الحي“ أو ”الوطن“ أو ”الجريدة“ أو ”الشاشة“على شاكلة ”النجم الساطع“، لكن بمجرد أن تترجم تمر بصمت، ولنا أمثلة كثيرة، فبعد ”موسم الهجرة إلى الشمال“ للطيب صالح و”أولاد حارتنا“ لنجيب محفوظ لا يوجد نص روائي عربي واحد أثار القراءة في اللغات الأجنبية، إذن علينا أن نعيد النظر في ”إنشائنا الروائي“، نعيد النظر في ”ميكانيزمات“صناعة الأسماء الأدبية في العالم العربي.
اللعبة السردية
ويعدد الناقد العراقي الدكتور مازن موفق أسباب وقوع الروائي في مسألة الترهل في كتابته للرواية ومن بين الأسباب التي ذكرها: عدم إدراك الكاتب لما يكتب، بعبارة أخرى عدم اختمار العمل كليا، وهذا الترهل يكون على حساب الأحداث فبدلا من إغراقه في جمل متكررة بشكل ممل ينبغي تكثيفه، يقع الروائي في هذا أيضا من خلال عدم تمكنه من فن القص، وبخاصة في أول عمل له، وعدم قراءته للروايات الرصينة، فالروائي عليه أن يعيش الحدث ويشعر به، يدخل إلى عوالم المدن ويلامس سلوك الشخصيات ويتحسس الأمكنة، فالروائي المحترف ابن بيئته، انظر إلى عملاق الرواية نجيب محفوظ عندما يروي عن المجتمع المصري تشعر بأن المجتمع يتحرك أمامك واقعا ملموسا.
ويشدد د.موفق على أن تلبية رغبات الجمهور والكتابة عما يحبون، خطأ كبير، وكذلك عدم الاسترسال الوصفي في بناء الأحداث والأمكنة والشخصيات، ومن الأسباب الأخرى عدم تمكنه من الأساليب الأدبية التي تعمل على تكثيف السرد كالرمز والترميز، وإعطاء فرصة لمتلقي الخطاب من التأمل والتفكير في اللعبة السردية ومنها الكناية والتعريض والاقتصاد الأسلوبي الذي يجسده أسلوب إيجاز الحذف، ففي حالة تفصيل الروائي كل جزئية يجعل النص مستهلكا لدى المتلقي ويشعره بالملل الذي يخلق عنصر الفجوة في العملية التواصلية، إذن الإشكال هو ذوبان العمل في ظل استطرادات وتأملات، تحول العمل الروائي إلى مجرد ترهل يقوم بإغراق الرواية كليا على المستوى السردي دون التركيز على إنجاز حدث مؤثر.
غياب الإشعاع الثقافي
لعل السبب الأساسي في ترهل الرواية العربية وتراجعها عن الركب العالمي كما تراه الأديبة المغربية، ليلى مير هو حالة
الهزيمة، والتراجع الذي عرفته الشعوب العربية في العقود الأخيرة، فغياب الإشعاع الحضاري والثقافي الذي طالما وفره العرب للشعوب والأمم التمزق الذي تعرفه الأمة العربية، وما وقع بالساحة السياسية من أحداث في العقد الأخير أدى إلى تناقص نفس القراءة وظهور ثقافة "الفاست فود"، والرغبة في الحصول على قراءات سريعة وقصيرة الحجم.
ترهل الكتابة السردية
الأديبة العراقية أيسر الصندوق توضح أن السبب في الترهل الروائي هو غياب السرد الجمالي والبعد عن محاكاة الواقع والأحداث المجتمعية، بالإضافة إلى الواقع الافتراضي والذي تسبب في الابتعاد عن التوازن في واقعية الحدث وهشاشة التنوع في المكان والسرد. ومن الأسباب الأخرى التي يعزي إليها نشوء تلك الظاهرة انتشار العمل الروائي بشكل كبير في السنوات الأخيرة هو من قبيل الفضاء الواسع الذي يحدده مسار او مكان او زمان، وباتت الجوائز والمسابقات الروائية هي الحافز لدخول عالم الرواية دون خبرة كافية.فقد أصبح العمل الروائي وجهة الكثيرين ممن تركوا أو عزفوا عن صنوف الأبداع الأخرى.
كل الحقوق محفوظة لمكتبة الملك عبدالعزيز العامة © 1446-2025