د. وليد قصاب
تعد نازك الملائكة من كبار رادة الشعر الحديث، كما أنها الوحيدة – فيما نعلم – التي حاولت ضبط موسيقا هذا الشعر، ووضع القواعد له، على طريقة دقيقة منظمة تشبه صنيع الخليل بن أحمد العظيم، واضع علم العروض العربي، ومحرر قوانينه وأصوله.
وهيأ نازك الملائكة لهذا العمل الهام المتميز مجموعة من المكونات الثقافية الإيجابية: كانت متضلعة من عروض الخليل، عميقة المعرفة به، كما كانت مطلعة على الشعر الغربي الحديث، قارئة له ومترجمة، يرفد ذلك كله أنها شاعرة متميزة، مرهفة الحس، رقيقة الذوق، مما يعني أنها جمعت بين موهبتي: الإبداع والتنظير. وإذا طوينا كشحا عن تلك الملاحاة العقيمة بينها وبين السياب لتسجيل سبق – فيما لا نرى فيه سبقا ولا مفتخرا – حول أول من كتب قصيدة من الشعر الحر، أهي «كوليرا» نازك، أم «هل كان حبا» للسياب؟ ورجحنا ما ذهب إليه كثير من الدارسين«1» أن يكون الس ّ باق الحقيقي هو علي أحمد باكثير، أقول إذا أعرضنا عن الخوض في مسألة تسنم زعامة هذا الشعر الجديد فإن الذي لا تـُنازع فيه نازك الملائكة هو محاولتها التنظيرية الرائدة لموسيقا هذا الشعر الذي بدأت تفشو فاشيته منذ منتصف القرن العشرين، وينتشر في الساحة الأدبية انتشار النار في الهشيم، محاطا بطبل وزمر من الترويج والدعاية والمزاعم لم تحظ به حركة فنية في تاريخ الأدب العربي الطويل.
ولا شك أن من أهم العوامل التي ترسخ أقدام أي مذهب أدبي جديد هو أن يقدم - إلى جانب نماذجه التطبيقية – بيانا بالأصول النظرية التي ينهض عليها. وإذا كانت حركة الشعر الحر قد بدأت تنتشر منذ الأربعينات، وتتبلور في الخمسينات، فإن دلالتها «تحددت أو كادت حين قعّدت نازك الملائكة للشعر الحر أصوله الإيقاعية، وحصرتها في وحدة التفعيلة، لأن هذا المصطلح لم تكن دلالته واحدة في أول الأمر ..»«2»
موسيقا الشعر الحر:
تبنت نازك الملائكة من بين المصطلحات الكثيرة التي أطلقت على الشعر الجديد مصطلحا نقديا معينا هو «الشعر الحر» وهو من آكد التسميات التي انتشرت ولقيت حظوة أغلبية النقاد وإن لم تقض تماما على بلبلة المصطلحات وفوضاها اللتين رافقتا هذه الحركة.
جعلت نازك الملائكة موسيقا الشعر الحر تقوم على أساس التفعيلة، وقافية متنوعة غير موحدة، ودعت إلى ذلك – أول ما دعت – في مقدمة ديوانها «شظايا ورماد» عام «1947» إذ أوردت مقاطع من قصيدة لها تقوم على تفعيلة «فعولن»:
يداك للمس النجوم
«فعولن– فعولن – فعولن»
ونسج الغيوم
«فعولن – فعولن»
يداك لجمع الظلال
«فعولن – فعولن – فعولن»
وتشييد يوتوبيا في الرمال
«فعولن – فعولن – فعولن – فعولن»
ثم قالت: «الأبيات تنتمي إلى البحر الذي سماه الخليل المتقارب، وهو يرتكز إلى تفعيلة واحدة هي «فعولن» ... أتراني لو كنت استعملت أسلوب الخليل كنت أستطيع التعبير عن المعنى بهذا الإيجاز وهذه السهولة؟ ألف لا، فأنا إذ ذاك مضطرة إلى أن أتم بيتا له شطران، فأتكلف معاني أخرى غير هذه، أملأ بها المكان، وربما جاء البيت الأول بعد ذلك كما يلي:
يداك للمس النجوم الوضاء
ونسج الغمائم ملء السماء
وهي صورة جنى عليها نظام الشطرين جناية كبيرة. ألم نلصق لفظ «الوضاء» بالنجوم دونما حاجة يقتضيها المعنى إتماما للشطر بتفعيلاته الأربع«3» ...
وبصرف النظر الآن عن رأي نازك في عدم قدرة « أسلوب الخليل «على التعبير عمّا تريد، وهو رأي غير دقيق لا نقرّها عليه؛ فإن الذي يهمنا في هذا المقام أنّ نازك مضت في محاولتها التنظيرية هذه حتى استوت على سوقها في كتابها الذائع «قضايا الشعر المعاصر» الذي صدرت طبعته الأولى عام «1962» وحصرت فيه يومذاك التفعيلات التي يمكن أن يكتب بها الشعر الحر في ثمان، مستمدة من: الكامل، والهزج، والرمل، والرجز، والمتدارك، و المتقارب، والوافر، والسريع، وسمت هذه البحور بالبحور الصافية، لأن كل بحر يتكون من تفعيلةواحدة تتكرر من غير أن تشركها تفعيلة أخرى، واستبعدت – في هذه المحاولة – أن يجوز نظم شعر حر من البحور الممزوجة، وهي التي يشترك في تشكيلها أكثر من تفعيلة واحدة، مثل: البسيط، والمديد، والخفيف، والمجتث، والمنسرح، وسواها«4» ...
كما كانت لنازك – في هذه الطبعة من الكتاب – آراء أخرى تتعلق بالجمع بين التشكيلات غير المتجانسة والقافية، وأنواع الأضرب المستساغة، وغير ذلك.
ولسنا معنيين في هذا المقام بدراسة هذه الأسس الموسيقية التي تريد الشاعرة الناقدة أن تقيم الشعر الحر على أساسها، فهذا موضوع بحث مستفيض لا يتسع له الموقف الآن، ولكن يهمنا أن نشير هنا إلى ما ذكرته في مقدمة الطبعة الخامسة لكتابها الصادر عام «1978» إذ قالت:
«سبق لي في كتابي هذا أن جعلت البحور التي يصلح نظم الشعر الحر منها ثمانية، هي الكامل، والهزج، والرمل، والرجز، والمتدارك، والمتقارب، والوافر، والسريع، وكان حكمي هذا قائما على أساس اعتبار التفعيلة الواحدة المكررة في الشطر أساسا، فإذا كانت التفعيلة غير مكررة في الشطر تكرارا متجاورا لم يصح عندي نظم شعر حر من الوزن الذي تنتمي إليه، مثل بحور البسيط، والمديد، والخفيف، والمجتث، والمنسرح، وسواها.
على أن الشعراء ، وأولهم بدر شاكر السياب – رحمه الله – حاولوا
نظم شعر حر من بحور أخرى غير التي ذكرتها، كالطويل، والبسيط، والخفيف. وقد درست ما صنعوه، فوجدت ذلك يقوم على أساس اعتبار الوحدة في القصيدة الحرة تفعيلتين اثنتين بدلا من واحدة، كقولهم من الطويل:
فعولن مفاعيلن، فعولن مفاعيلن
فعولن مفاعيلن
فعولن مفاعيلن، فعولن مفاعيلن، فعولن مفاعيلن
ولا يجوز أن تكرر تفعيلة واحدة مختارة لأننا بذلك نخرج إما إلى المتقارب «فعولن فعولن فعولن» أو إلى الهزج «مفاعيلن مفاعيلن»«5».
وأيدت نازك هذا التوجه الآخر، وأدخلت عليه بعض المقترحات، كما أدخلت مقترحات أخرى تتعلق بجمع التشكيلات غير المتجانسة«6».
وكانت قد دعت في مجموعتها الأخيرة «شجرة القمر» الصادرة عام «1967» الشعراء الجدد إلى العناية بالقافية أكثر، وأبدت أسفها أنها قصرت هي نفسها في هذه العناية، فقالت: «مما أحب أن أعلن أسفي له أنني في شعري الحر لم أعن عناية أكبر بالقافية، فكنت أغير القافية سريعا، وأتناول غيرها، وهذا يضعف من الشعر الحر، لأنه يقوم على أبيات تتفاوت أشطرها، وبذلك ينقص رنينها وموسيقاها، فلو زاد الشاعر القافية غنى ولم يغيرها سريعا لأضفى على الوزن موسيقا تمسكه وتمنعه من الانفلات»«7».
وهكذا فنحن أمام ناقدة لا تتعصب لأحكامها التي توصلت إليها، وهي مستعدة أن تدخل عليها قليلا أو كثيرا من التعديلات التي يمكن أن تستقرئها من النماذج التطبيقية المقنعة، وذلك لأن هذا الشعر الحر الذي تحاول التنظير لعروضه ما يزال في أوله، فعروضه – من ثمة – لا يمكن أن ينضج «دفعة واحدة من دون تدرج، خاصة وأن هذا الشعر كان في سنة 1962 لم يزل ينمو. والعروض يجب أن يكون استقراء لما ينظمه الشعراء من ناحية، واعتمادا على قوانين العروض من ناحية أخرى..» «8».
ضوابط الجديد
يقول الدكتور إحسان عباس: «لعل نازك أول من شمل هذا الكشف – يعني الشعر الجديد – بالإيمان العميق، والوعي النقدي الدقيق، في مقدمتها على ديوان «شظايا ورماد: 1949»، ويبدو أن هذه المقدمة هي التي أوجدت للتيار الشعري الجديد مسوغاته الفكرية، وقرنت بين التجربة العملية والسند النظري ..»«9» وذلك عندما اجتهدت أن يكون لهذا الشعر الجديد – الذي بدأ يشق طريقه متحديا أرعن، غير مستبصر دائما بما يصنع – نظامه الذي ينهض عليه، وقسمات وجهه التي تميزه من غيره، فكانت لها – في محاولة التنظير لعروضه اجتهادات كثيرة حالفها النجاح في بعضها، وربما لم يحالفها النجاح في بعض آخر، شأن أيّ عمل رياديّ. ولكن الذي لاشك فيه عندنا أن محاولتها التنظيرية هذه ـ مهما كان الرأي فيهاـ تنطلق من أساس سليم، وهي تفصح عن إدراك واع، وبصيرة ثاقبة ، بما ينبغي أن ينهض عليه أي مذهب أدبي جديد؛ إذ لابد لكل حركة تجديدية حتى تمد لها جذوراً في الأرض أن تقدم بين يديّ مشروعها معايير تنظيرية تضبطه وتبرز وجهة، مما يوحي أنها على وعي بما تصنع وأنها ـ إن كانت تدعو إلى هدم قديم أو تعديل ـ تجتهد أن تحل محله بناء جديداً ذا عُمد وأركان.
إن نازك تحاول أن تضع ضوابط عروضية لهذا الشعر الجديد حتى لا يمضي الشعراء على غير هدى كما هو حاصل في هذه الأيام يقول من يشاء كما يشاء، وكأن الشعر أرض مستباحة مشاع لا أصحاب لها ولا أهلين.
إن المعايير هامة وضرورية، فهي ضوابط تعصم من الفوضى وتحفظ من التخبط، وتميز البصراء من الهاذين الضاربين على غير وعي أو إدراك، إنها تمييز للجهد المنظم المدروس من العبث والتخريب، والمعايير قيود، ولكنها مقياس العبقرية في الفنّ، وهي قيود ضرورية لابد منها لأنها تمثل الحياطة والحراسة، وهي التي تجعل للأشياء ملامح ومعنى وهدفاً.
ولاشك أن نازك ـ وهي تقدم على هذا التنظير لعروض الشعر الجديد ـ كانت ذا حدس بعيد، كانت على وعي بهذا كله، وكانت تنظر يبصرة نفاذة إلى ما يمكن أن تصير إليه هذه الحركة ـ وكل ّ حركة تجديدية أخرى ـ لو تركت من غير ضوابط.
لقد هاجمت طائفة من أرباب الحداثة نازك الملائكة، لا لأنها أخطأت في المعايير التي وضعتها أو لأنها اجتهدت فنكّب الصواب عن جادتها ،ولكن لأنها وضعت لهذا الشعر الحديث معايير، فالحداثة عند هذه الطائفة لا معايير لها، ولا ينبغي أن يكون، إنها ـ كما يقول جابر عصفور « تتمرد على المعايير» وترفض التشكل، لأن التشكل يحيلها إلى طقس كما يقول أبوديب، والشاعر ـ كما تقول عنه ـ مجلة شعر اللبنانية «وحش يقف ضد كل شىء، ويهدم حتى نفسه عندما يجد ذلك ضرورياً إن حلم القصيدة في كل ّ العصور هو حلم التجاوز، وترسيخ دين جديد لا يفرض تعاليم جديدة«10».
إن قوماً من كبراء الحداثة هاجموا المعايير والضوابط التي اجتهدت واحدة مثل نازك أن تحفظ حركة الشعر الجديد بها، وعّدوها قيوداً جديدة تغل ّ من حرية الشاعر، وتقف في وجه الإبداع المتوثب، وكأن
التجديد هدم من غير بناء.
هاجم يوسف الخال نازك الملائكة هجوماً عنيفاً في كتابه» الحداثة في الشعر» ففي فصل عنوانه «رواسب الجمود في حركة الشعر» سلق الناقدة بلسان حاد. سخر منها لأنها اختارت تسمية «الشعر الحر» وعدّ ذلك ـ ولم أدر كيف؟ ولم؟ ـ «مظهرا من عبادة القديم» وأسخطته محاولتها وضع قوانين للشعر الجديد، إذ ينبغي ـ في رأيه ـ أن يُعطى الشاعر»حريته كاملة، فينظم دون قواعد مسبقة، إلا قواعد اللغة والإيقاع الذي تطرب له أذنه. «11»
وإذا كانت نازك قد حصرت اهتمامها في جانب واحد من جوانب درس الشعر الجديد وهو الجانب الموسيقي العروضي، فإن هذا كان سيبدو منها مقبولاً منهجياً؛ فمن حق أي باحث أن يتناول بالدرس أي قضية يريد ولكن بدت قضية الشعر الحر عند هذه الناقدة وكأنها مجرد قضية شكلية تتعلق بالعروض فحسب، وبدت بعض عباراتها فاقعة أحياناً في التعبير عن مثل هذه الدلالة كقولها مثلاً :» نلحّ على التذكير بأن الشعر الحر ظاهرة عروضية قبل كل شيء، ذلك أنه يتناول الشكل الموسيقي للقصيدة ويتعلق بعدد التفعيلات في الشطر... وغير ذلك مما هو قضايا عروضية بحتة «12»
وصحيح أنها تناولت في كتابها قضايا تتعلق بالشعر الحرّ، من مثل هيكل القصيدة وبنائها والجانب البلاغي منها، وما يسمى بقصيدة النثر، والشعر المترجم عن اللغات الأجنبية، وتقليد القصيدة الأوروبية ومزالق نقد الشعر، ومسؤولية الناقد إزاء اللغة وعلاقة الشعر بالموت، وصلة الشعر الحر بالبند العراقي والموشحات، وغير ذلك من القضايا، ولكن كاد الشعر الجديد يبدو على يديها وكأن هاجسه الأول هو الشكل، أو أنه مجرد قضية عروضية في المقام الأول، على حين أنّ قضية الحداثة في الشعر هي أعمق من مجرّد كونها قضية شكلية.
وعلى كل ٍّ فإن مما يقدر لهذه الناقدة حدسها المبكر بأن هذا الشعر الجديد المقتحم يمكن أن يؤول ـ في وقت غير طويل ـ إلى حركة منفلتة «سائبة» إن لم توضع لها الضوابط والمعايير، وقد اجتهدت نازك ـ اجتهاد ناقد ، شاعر متذوق متمرس ـ أن تقوم بهذا الدور ، ولكن بعض كبراء الحداثة وقفوا لها بالمرصاد، ودعوا إلى كسر المعايير، حتى آل الشعر الحديث إلى ما كانت تخشاه نازك ، صار إلى حال مزرية يصفها محمود درويش بعد حوالي عشرين سنة من صدور كتاب نازك بقوله» الشعر العربي الحديث ليست له ضوابط، وليس هناك نقد حقيقي يواكب هذه الحركة، فالحركة «سائبة» بدون أي ضابط، وقد أصبح عمرها حوالي نصف قرن، وقد آن الأوان لكي تنتج ناقدها وضوابطها. «13»
ويصفها شوقي بغدادي بقوله: « إن هذا التسيب الكبير لم يسبق له مثيل في أي عصر مضى من العصور العربية الحالية، ويؤدي باستمرار إلى نوع من الضياع واللاجدية بين جماهير القراء والمثقفين حتى في أوساط الفئات المتخصصة أو ما يسمى بالنخبة. «14»
وإذا كانت نازك قد تنبأت ـ بسبب الغلو في التنكر للتراث العربي ـ بانحسار هذه الموجه، فقالت: « إني لعلى يقين من أن تيار الشعر الحر سيتوقف في يوم غير بعيد، وسيرجع الشعراء إلى الأوزان الشطرية بعد أن خاضوا في الخروج عليها والاستهانة بها ...» فإن ناقداً متميزاً هو الدكتور عبدالقادر القط ردّد هذا الرأي بعد سنوات معللاً ذلك بانقطاع الصلة بين هذا الشعر الحديث والمتلقي، وقد يكون إيغال هذا الشعر في الاغتراب عن التراث هو سبب الانقطاع .
يقول الدكتور القط: «أعتقد أن التيار الجديد الذي يطلقون عليه مصطلح الحداثة سينحسر، ذلك أنّ الشعراء سيدركون أن صلتهم بالمتلقي توشك أن تنقطع تماماً ««15».
الحداثة والتراث في محاولة نازك.
آمنت هذه الناقدة أن لا معاصرة من غير أصالة، ولا حاضر أو مستقبل من غير ماض؛ إذ لا يمكن لشجرة أن تفرع وتشمخ بلا جذور في باطن الأرض تمسكها، لذلك اجتهدت نازك طويلاً في ربط الشعر الحر بعروض الخليل «الذي لا عروض لنا غيره « فقالت منذ أيام «شظايا ورماد» الذي دعت فيه إلى هذا الشعر الجديد بحماسة خفت حدتها فيما بعد: « ينبغي ألا ننسى أن هذا الأسلوب الجديد ليس خروجاً على طريقة الخليل، وإنما هو تعديل لها، يتطلبه تطور المعاني والأساليب خلال العصور التي تفصلنا عن الخليل .. ««16» ثم أكدت ذلك في مقدمة الطبعة الأولى لقضايا الشعر المعاصر فقالت: «إن ملخص ما فعلته حركة الشعر الحر أنها نظرت متأملة في علم العروض القديم، واستعانت ببعض تفاصيله على إحداث تجديد يساعد الشاعر المعاصر على حرية التعبير وإطالة العبارة وتقصيرها بحسب مقتضى الحال، ولم تصدر الحركة عن إهمال العروض كما يزعم الذين لا معرفة لهم به، وإنما صدرت عن عناية بالغة به جعلت الشاعر الحديث يلتفت إلى خاصية رائعة في ستة بحور من الشعر العربي تجعلها قابلة لأن ينبق منها أسلوب جديد في الوزن يقوم على القديم، ويضيف إليه جديداً من صنع العصر «17»»
وأطالت في بيان أن الدعوة إلى الشعر الجديد لا تعني انتباذ القديم أو هجره. قالت: «إنه ليهمنا أن نشير إلى أن حركة الشعر الحرّ ـ بصورتها الح الصافية ـ ليست دعوة لنبذ الأبحر الشطرية نبذاً كاملاً، ولا هي تهدف إلى أن تقضي على أوزان الخليل وتحل ّ محلها، وإنما كل ما ترمي إليه أن تبدع أسلوباً جديداً توفقه إلى جوار الأسلوب القديم وتستعين به على بعض موضوعات العصر المعقدة..»«18»
وعدّت انتباذ القديم والخروج عليه من المغالاة والتطرف في التحديث، وأبدت قلقها من أن تسود هذه النزعة التحديثية قالت: « نحن في شيء من القلق على الحركة، تقلقنا هذه المغالاة التي تصاحبها، وتلك الحدة والعصبية التي يكتب بها بعض أنصارها المتحمسين الذين حسبوا محاربة آدابنا القديمة جزءاً من أهداف الشعر الحر، وكأن من الممكن أن نبدع نحن شيئاً لم يساهم أجدادنا الموهوبون في تمهيد السبيل إليه منذ ألف سنة» ثم أحكمت الرباط بين القديم والحديث فتابعت تقول: الواقع أن حركة الشعر الحر لن ترسخ في تاريخنا حتى يدرك الشاعر الحديث أن تراثه القديم قد كان هو المنبع الذي ساقه إلى إبداع الجديد، ولعل إنكار القديم والمغالاة في النفور منه مظهر من مظاهر ضعف الثقة بالنفس عند الأمم «19».
ولم تفتأ نازك تعلن عن إعجابها بعروض الخليل، وتتحدث عن طاقاته الفذة وتفند دعاوى من زعموا أن دوره قد انتهى، أو أنه لم يعد يصلح لموضوعات العصر أو أن الشعر الجديد يستطيع أن يكون بديلاً له قالت في مقدمة مجموعتها الأخيرة «شجرة القمر»:لا أذكر قط أنني اقتصرت على الشعر الحر فترة من حياتي، وسبب هذا أنني أولاً أحب الشعر العربي ولا أطيق أن يبتعد عصرنا عن أوزانه العذبة الجميلة ثم إن الشعر الحر كما بينت في كتابي قضايا الشعر المعاصر يملك عيوبا واضحة أبرزها الرتابة والتدفق والمدى المحدود وقد ظهرت هذه العيوب في أغلب شعر شعراء هذا اللون «20».
وقالت في موضوع آخر لا أظنه يخفى على أحد من المتابعين، وهو أن بعض الموضوعات تنتفع بالوزن الحر ولذلك لا نرى وجهاً نبرر به ميل بعض الناشئة إلى أن يكتبوا شعرهم كله بالأوزان الحرة، غير أن التطرف شيء مألوف في تاريخ الدعوات الأدبية والاجتماعية «21».
ومما يؤكد إيمانها العميق بقدرة العروض الخليلي أنها في مجال الإبداع أنشأت- وهي رائدة الشعر الجديد والداعية المتحمسة الأولى له- الغالبية العظمى من شعرها على نظام الشطرين ولم يرد في دواوينها الثلاثة المشهورة شظايا ورماد، قرارة الموجة، شجرة القمر، إلا حوالي ست وعشرين قصيدة من الشعر الحر مما مجموعه خمس ومائة قصيدة تقريباً.
المصادر والحواشي
1. انظر مثلاً التجديد الموسيقي في الشعر العربي، رجاء عيد ص237
2.
كل الحقوق محفوظة لمكتبة الملك عبدالعزيز العامة © 1446-2025