عبد الله السمطي
تستهل الشاعرة الدكتورة بشرى البستاني ديوانها: ( مخاطبات حواء) الذي يتصدر أعمالها الشعرية ( المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 2012) بقصيدة بعنوان:» موسيقى» ص.ص 20-19 . ترتكز هذه القصيدة القصيرة التي تتشكل من (20) سطرا على بنية تتكون من : الرصد، والوصف، والمشاهدة، إنها تلج مباشرة إلى كينونتها الدلالية إلى دفقة الموسيقى. لذا اصطفت الشاعرة موقف المفاجأة لتضعنا في التو في عمق القصيدة، ولهذا تكرر كلمة « فجأة» أربع مرات على امتداد القصيدة، كأنها تحيط بالجهات لتسمعها هذه الموسيقى التي لا تتكاثر ولا تتصاعد ولكنها تنبثق وتتجلى.
الموسيقى هنا لا تأتي في نسق متراتب منتظم. الموسيقى تأتي دفعة واحدة كطلقة مباغتة. إنها موسيقى من نوع خاص، ليست معزوفة تستند في ترتيبها إلى نغمات منتظمة وإلى جمل متساوقة جملة تفضي إلى جملة. الشاعرة تنقل لنا موسيقى قصيدة صاخبة في تأملها ومتأملة في صخبها.
تبدأ الشاعرة قصيدتها بالقول:
فجأة يسقط الثلج في الصالة المقفلة
فجأة تتداعى الغيوم
تسد النوافذ
لحن أخير يرف على الشرفة المطفأة
تبتدع الشاعرة هنا موسيقاها في موسيقى القصيدة، لا يوجد هنا عازفون أو آلات موسيقية.
توجد بنية كلمات، والموسيقى هنا موسيقى حواس تتأمل في طبيعة مقبلة أو أن خيالا ما يضيء بموسيقى أخرى غير المسموعة في مقابل ذلك ينهمر ثلج ويسقط مع أن الصالة مقفلة، المشهد يصنع موسيقاه: ثلج وغيوم، نوافذ وشرف، لا ضوء الموسيقى هنا تتوالد وتنبثق عبر المشهد. لحظة شتوية مطفأة، وهنا يبدأ اشتغال الخيال لتنطلق الشاعرة إلى المشهد الثاني:
أمد ذراعي
أمسك ما يتناثر من ندف النغم
الشمس تومض
تنفتح النافذة
فجأة
ذهبت الشاعرة إلى التخيل الأقصى لأنها تعيش في قلب الموسيقى، فانتقلت من حالة الرصد والوصف في المشهد الأول إلى حالة الحركة والفعل في المشهد الثاني فتبدأ في المشاركة في صنع هذه الموسيقى، حيث تنتقل الحالة من شتوية الثلج إلى الشمس وضوئها. الزمن هنا ينتقل نقلة أخرى وكأنما لا زمن ولا انتقال. هكذا الموسيقى تفعل تخييلها .
ولأن الشاعرة تعتمد على انتقال هذه الحالة المتخيلة/ المحسوسة معا على «الفجاءات» يحضر مشهدان يشاركان في اصطخاب الموسيقى وتوسيع دائرتها، مشهد جزئي ينتقل إلى المشهد الكلي من البلاب والغصون إلى البحر والأفق والنهر والصحارى:
... وترف البلابل
يهدر موج عصي
وتهفو الغصون
تغادر روحي قضبانها
ثم تنتقل إلى هذا المشهد الكلي الأرحب الذي تعمه الموسيقى:
فجأة
يتداخل بحر بأفق
وأرض بنهر
تدور الصحارى
وأصعد
أصعد
حتى التلاشي
هذه فجاءات متتالية تصنع موسيقى من نوع آخر، موسيقى التخييل في هذه القصيدة التي تتعانق فيها الكلمات مع الطبيعة وتنتقل من الغرف والنوافذ إلى الأفق والصحارى من حالة التأمل الداخلي إلى حالة التأمل الخارجي الأرحب حتى يعود هذا التأمل ليحدث نوعا من المزج بين الموسيقى والذات والفضاء الرحب الذي تتلاشى فيه الذات، كأنها تحدث قدرا من التماهي بين نغمات الموسيقى ونغمات الوجود.
إن الشاعرة بشرى البستاني استخدمت الأفعال المضارعة بكثافة في هذه القصيدة القصيرة حيث احتوت على (17) فعلا مضارعا في (20) سطرا والأفعال المضارعة هي أفعال آنية، لحظة تتوسط لحظتين: الماضي والمستقبل، كأن هذه الموسيقى في زمن حاضر لا يزال حادثا موجودا كأنها في هذا التوسط تشع في اللحظتين الأخريين. والإحساس بالموسيقى دخول في اللحظة الحاضرة نفسها وتماه معها وتلاش ٍ فيها. كأن الحضور/ الغياب كتلة زمنية خارج الزمن تنسرب في هذه الأمكنة التي تنتقل فيها من الصغير للكبير كما ذكرت سابقا.
هناك حالة من التكوين الجمالي/ الدلالي لهذه القصيدة تتمثل في هذا الجدل المتجانس بين حضور الذات والطبيعة، الداخل/ الخارج، الصغير/ الكبير، المغلق/ المفتوح.
إن استعمال الشاعرة لهذا الجدل المفتوح مع تركيزها على حضور الأفعال المضارعة صنع حالة إيقاعية متميزة. حضور الأفعال بكثافة في تغير أحداثها وكلماتها – وكلها تقريبا أفعال حركية مثل: يسقط، تسد، أمسك، تنفتح، ترف، يهدر ، عدا فعل: تهفو- هذا الحضور أحدث قدرا من الحيوية الموسيقية، وأصبحت القصيدة حالة دائبة من الحدث الموسيقي الدلالي الذي يستشرفه القارئ، يعيش معه وينتقل من مشهد إلى مشهد حتى يتلاشى هو الآخر باحثا عن تأويل موسيقاه في هذا التلاشي الشفيف.
كل الحقوق محفوظة لمكتبة الملك عبدالعزيز العامة © 1446-2025