د. عماد الدين الخطيب
ماذا يخبئ لنا الجيل الجديد من نمط شعري يعبر عن ذاته؟
كيف يتحول النثر إلى شعر؟.. من يحدد الشعرية؟
مم تتشكل الذاتية في الشعر المنثور في السعودية؟
قصيدة النثر هي نص لا يعتمد الوزن المنضبط بتعدد التفعيلة، ولا يعتمد الالتزام بالقافية، بل يعتمد على الموسيقى الداخلية التي تصنعها روابط فنية وأصوات مختارة وصور تشكيلية تضبطها الإيقاعات، ولقد عرفتها سوزان برنار بقولها: «إن قصيدة النثر هي قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية موحدة مضغوطة كقطعة بلّور، إيحاءاته لانهائية، وتعتمد على التكثيف».
وهي نص ذو جذور أوروبية ، فقد أُخذت قصيدة النثر من الشعر الفرنسي، يقول أدونيس» لعلنا نعرف جميعا أن قصيدة النثر، وهو مصطلح أطلقناه في مجلة «شعر» إنما هي نوع أدبي– شعري، نتيجة لتطور تعبيري في الكتابة الأدبية الأمريكية-الأوروبية، فإن قصيدة النثر نوع داخل جنس الشعر فهو مصطلح كمصطلح النقائض والأراجيز والمدائح النبوية وغيرها، له طرقه وأشكاله وقيمته الفنية والجمالية ، فقصيدة النثر لا تعني السهولة والاستسهال ولا تعني عدم القدرة على الكتابة التقليدية، فكتابة قصيدة النثر حالة شعرية ذات خصوصية لابد للكاتب أن يبتكر لغته الخاصة وصوره وأن يتجنب كل ما هو مألوف وأن يودع فيها مبررات كتابته لتكون قصيدة نثر.
إن قصيدة النثر، خلاصة شعرية لمحاولات التجريب والتجديد الشعري بعروبيته وعالميته، وتكتسب مشروعيتها النظرية والإبداعية من نقض الثنائية: شعر-نثر، بإشكالياتها وتفريعاتها.
ويقول أدونيس «تنطلق قصيدة النثر في الحركة الشعرية العربية من هذه الظاهرة: إخضاع اللغة وقواعدها وأساليبها لمتطلبات جديدة بحيث أنها تثير من جديد، في التراث العربي معنى الشعور بالذات». فما دلالات الذاتية، وكيف تنوعت أبعادها في قصيدة النثر السعودية؟
هناك دلالتان تحملهما الصورة الشعرية في القصيدة النثرية، هما الدلالة الذاتية المطلقة، والدلالة الذاتية المقيدة، ومن الذاتية المطلقة المتشائمة ما جاء في ديوان حمائم تكنُس العتمة للشاعر جاسم الصحيّح، ومنه قوله:
فما أبعدَ الشوط َ بين أنا وأنا
فالأنا تولد الآن:
إنني أُولَدُ الآنَ
ويحددها الغروب:
من سقطتي في مهاوي الغروب ْ
وتشكلها الدقائق:
سقطت ُ سقوط َ الدقائق ِ دونَ رنين ٍ
ليتشكل:
تاريخُ حزن ٍ
يمتد حول عمر الشاعر:
يمدُّ خيوط َ عناكبهِ حول َ عُمري
ويتحول المقام إلى لملمة الأشلاء، وأشلاء اسمه بالذات:
ووحدي أُلملِمُ أشلاءَ اسمي القديم ِ
تلك التي بعثرته الليالي:
وقد بعثرتْهُ الليالي
على كل ِّ معتَرك ٍ للكروب ْ
.....................
فالحقيقة المطلقة دامية وهذا قول الشاعر:
إنَّ الحقيقةَ أدم َ ى... ومن الذاتية المطلقة المتفائلة ما جاء في مجموعة وشم على جدار القلب، للشاعر خليل إبراهيم الفزيع، في قوله عن يوم من أيامه الجميلة:
في يومِنا الجميل ْ
وهديته:
باقةً من القبل ْ
............
ونجمةً عنوانُها الأمل ْ
وأمنياته:
لم تزَل ْ
تزاول ُ الصعودْ
وتجاوزت تلك الأمنيات صغار الأمور واستقرت في :
القلوب
وجاء السرور الذي يمار العبور :
............................ إلى مناطق ِ الأمان.
ومن الذاتية المقيدة ما جاء في ديوان قصائد خضر ويابسات، للشاعر زاهر عثمان، وجاء التقييد من خلال استحضار الشاعر لشخصية «ياسين» المتوفى، فقال:
ياسينُ أنا، وأمينُ أنا، وجميع ُ محبيك َ هنا
ياسينٌ وأمينْ
فيك َ نُعزّى
وتظل ُّ لنا الدهرَ عزاءً
يجمعُنا في اللهِ رجاءٌ ويقينْ
أن نلقاك َ بدارِك َ في جنّات ٍ وعيونْ.
وتلك ذاتية مقيدة بلحظة الوفاة، وحالة الموت، وما تجره من ذكرى ورجاء..
كما جاء في ديوان أيها الطفل تدلّل، للشاعرة منال العتيبي، فاستحضرت ذاتها من خلال استحضار شخصية البطولة ورمزها في تاريخ العرب والمسلمين، فمهدت بما أصابها من:
... عناءٍ طويل
وجهدٍ جهيد
وهمٍّ وسقم
وحزن وألم
لتصل إلى ما ضاع منها وهو قلبها فقالت:
وضياع قلب
وتصل إلى حبها المقتول.. ومشاعرها المنهكة وهو قولها:
وقتل حب
وإنهاك ِ مشاعر
والنتيجة أنها:
استسلمت
ورفعت الرايةَ البيضاء
والغريب أن استسلامها صنع منها:
...المقاتل َ الفذَّ
والبطل َ الصنديد
وصارت:
سيّدَ/ة المعارك
وفارس/ة الفوارس
وتعادلت الشاعرة مع كل من ضاعت كرامته وضاعت مقدساته واستحضرت من يرجع تلك الكرامة وتلك المقدسات، إنه ذاك:
البطل َ الأيوبي، ملك َ حطين، صلاح الدين
فاتحَ القدس
وقررت الشاعرة قرارا يتساوى مع قرار كل من ضاع له حبيب بأنها:
لن ترفع َ .. الرايةَ البيضاء
وجاءت الذاتية المقيدة في ديوان وإذا الأمس ُ آت ٍ غداً، للشاعر إبراهيم المشني الغامدي، واستحضر الشاعر طرفًا جامدًا جس ّ د فيه الحياة وهو قلمه، وجعله:
يكتب ُ آلامه
وشاركه في الكتابة والإحساس بالتأوه:
الحبر ..
والدفتر ..
وتشارك الشاعر والقلم والدفتر والحبر في تقليب صفحة تاريخ الشاعر، وتحاور الشاعر مع قلمه فقال له:
...ماذا أعددت َ لرف ِّ الكتب ِ المشحون ؟
مستهجنًا مغادرته:
... سطر أزمانه
ومعيدًا الأمل في رؤيته قريبًا في صفحات قصائده
ويساومه القلب ُ المسجون
والنتيجة الصادمة أنه يطلب منه أن:
يسكت ْ
ولا يبعث ْ صوتًا
يسلبُه المأوى...
إنها شعرية من نمط جديد، تقترب من السردية، وتقص حكاية لها بطل معروف هو الشاعر وما يتجسد معه، ويستحضر الشاعر لاستكمال المشهد شخوصًا آخرين ومشاهد ترسل رسائل من نمط ٍ خاص تحمل معها التفاؤل رغم ما يلفها من حزن، وتضيء الصورة الشعرية في القصيدة النثرية جوانب من الرمزية وتستحضر التراث وتتدرج في الإيقاع وتعتمد على المفاجأة في النتيجة التي يرسم الشاعر مشاهدها.
وهكذا تكون الصورة الذاتية الرمزية في الشعر السعودي وسيلة من وسائل تعبير الشاعر عن أفكاره وأحاسيسه ومشاعره, حيث يسعى من خلالها لإخراج ما عنده بصورة غير مباشرة مختفيا وراء الرمز, فالصورة الرمزية صورة تشبيهية مثلى, وهي صورة إبداعية تستحضر غيب النفس والوجود، وهي صورة تستعين بالمدركات الحسية وتقيم نوعًا من التفاعل بينها وبين معاناة الذات بالتوحيد بين الجانبين يسقط خلاله الشاعر معادلة موضوعية في الوصول إلى نظام لغوي ذي دلالة موحية.
كل الحقوق محفوظة لمكتبة الملك عبدالعزيز العامة © 1446-2025