تنبيهات

التحولات الفنية في الشعر بمنطة عسير .. رجال ألمع أنموذجاً

التحولات الفنية في الشعر بمنطة عسير .. رجال ألمع أنموذجاً

عبد الله السمطي


إن الظاهرة الشعرية حين تنتقل من مرحلة إلى مرحلة أخرى فإنها تحفزنا على المثول حيالها لنرصد خواص هذا الانتقال وملامحه بشكل تاريخاني بالأساس يهتم بالقراءة الموضوعية العامة لما تنتجه هذه الظاهرة من حيث:

  1. طبيعة الموضوع المكتوب عنه

  2. القضايا والإشكاليات التي يناقشها الشاعر

  3. توجهات الخطاب الشعري بوصفه حالة تداولية لا حالة جمالية.

فالشاعر في مرحلة تاريخية معينة يختار مدفوعا بحسه الشعري أولا وبالسياق الشعري العام، يختار موضوعات محددة لإبداعه الشعري واقعية حينا واجتماعية حينا آخر ووطنية أحيانا أخرى.

إن الشاعر يمضي وفق الحس العام للحظة التاريخية حتى لا يعد – على الأغلب - خصيما للسياق العام، أو متمردا على القضايا التي يسمح الواقع العام، أو لنقل الوجدان الجمعي بالإطلالة عليها، والكتابة في أفقها.

فالقصيدة الشعرية في أي شكل من أشكالها الثلاثة لا تقف عند حد.

كلنا يعرف أن جرثومة التطور لا بد أن تصيبها لأن صوت الشاعر لا يبقى على حال، هو صوت متغير متجدد دائما. والقصيدة تتطور في عبر سياقين: سياق التجربة الذاتية للشاعر نفسه، وسعيه دائما إلى تجاوز أسلوبه، وتقديم نسيج جديد لشعره، ورفده بدماء جديدة من الصور والأخيلة، وسياق التجربة الشعرية العربية العامة، حيث إن السعي للتميز لابد أن يتبصر بتجارب الآخرين وفضاءاتهم الشعرية.

هنا يقفز سؤال التحول ليشكل ناظما جوهريا للفضاء الشعري الخاص بالشاعر.

إن سؤال التحولات من الأسئلة المهمة التي يتعايش بها الشعر، وإلا لقدم الشعراء نموذجا واحدا، ورؤية واحدة، واستقصاء واحدا. وهو الأمر الذي تأباه العملية الشعرية ككل وترفضه لأنه لا يشكل صورة مثلى من صور الإبداع وضميره النقي المتجدد.

فيما مضى ربما وصفت بعض النصوص الشعرية بأنها أكثر رومانسية في عالم مشتعل، وبأنها تصغي لصوت الأمطار أكثر من إصغائها لإيقاع الشارع وإيقاع الحياة مع تقديري الجمالي لها.

بيد أن مسألة التحولات من الأهمية بمكان بحيث لا تقف هذه القصيدة أو تلك عند حدود الرومانسية، أو عند حدود :” التغني” و”الإنشاد” والإطناب في هذا المشهد المتكرر.

لا تثريب على الشاعر أن يتغنى، ولا على القصيدة أن تتعطر برومانسيتها، ولكن جدل الحياة أكثر خصوبة، وأحزان العالم في مخيلة الإنسان أكثر إلحاحا.

يتسنى لنا على هذا الحذو أن نشير بشكل مكثف إلى نقطتين مهمتين في إطار الحدث الشعري أو الظاهرة الشعرية.

  • النقطة الأولى: تتعلــق بالمكون الشـعري الــذي ينتجه شــعراء منطقة عسير.

  • النقطة الثانيــة : تتعلق بالماهية الجمالية لهذا المنتج، حيث إن هــذه الماهية هي التي تحــدد قيمة هذا المنتــج ومدى ديمومته إلى حد بعيد.

ثمة إشارة في حوار أجراه ميرزا الخويلدي لصحيفة الشرق الأوسط مع

الشاعر إبراهيم طالع الألمعي وصف فيه حالة الشعر في عسير ورجال

ألمع بأنه متجاوز وأنه يوجد فيها أمثال شكسبير.

واشار أكثر ما اشار إلى الشعر الشعبي، وأنا هنا أتفق معه في هذه الإشارة حيث إن الشعر الشعبي كما أطلق عليه في عنوان لأحد كتبه بأنه:” نبض حياة” الشعر الشعبي بحق هو نبض حياة لأنه لصيق بحياة الناس وملامس لأحلامهم وتطلعاتهم وأشواقهم.

وهذه ظاهرة عامة لا تختص بالضرورة بمنطقة عسير، ولكن بالعالم العربي ككل لا بالمملكة العربية السعودية وحدها.

وإنني اكتفي هنا بالإشارة إلى عدد من النماذج الشعرية كأمثلة لا كحالة حصرية على هذا الأفق الشعري الذي يتجلى في محافظة رجال ألمع، آملا أن اقدم فيما بعد دراسة موسعة حول هذا الشعر أرجو أن يتبناها نادي أبها الأدبي والصديق الدكتور أحمد آل مريع قريبا .

في مقدمة ديوانه:» من نفحات الصبا» ( ط3 / 2005م) يقول الشاعر زاهر بن عواض الألمعي:

«هذا الديوان نبضات قلب يتألق به الوجد، ولواعج أشواق تشعشع في حنايا الضلوع، وأطياف مجنحة بأمانيّها العذاب في مرابع الصبا ومواطن ذكريات الشباب» / ص 37 ربما يكون هذا المفهوم الشعري هو السائد شعريا في بدايات الشعر بمحافظة رجال ألمع، بل في بداياته في عسير ككل .. فهو « نبضات قلب» وهو أطياف في مرابع الصبا ومواطن ذكريات الشباب. فمن يقرأ عددا من النماذج الشعرية العشوائية لشعراء المنطقة لن تغيب عنه هذه البداهة التي يؤكد عليها الدكتور زاهر الألمعي المولود في العام ( 1354هـ) خاصة في ديوانيه:» على درب الجهاد، و: من نفحات الصبا» وهنا نتساءل كمثال أيضا: ما الذي تغير في مفهوم الشعر عند شاعر مثل: إبراهيم طالع الألمعي، لنصغي لمقدمته الشعرية لديوانه:» سهيل اميماني، الطبعة الأولى 1420هـ / 1999م ) وهي مقدمة شعرية تمثل فاتحة الديوان.

جاء فيها:

يتجافى عن المضاجع جنب

أرق الشعر قلبه والحنين ُ

فإذا هام بالحياة زمانا

قيل للدهر: كن له فيكون ُ

آية الشعر أن يكون حروفا

وطيورا مداده واللحون ُ

يشترك إبراهيم طالع هنا في الرؤية نفسها التي قدم بها الدكتورزاهر الالمعي ديوانه، وهي رؤية تنطلق من القلب لتصل إلى الطيور واللحون. أي لعالم رومانتيكي في جوهره. إنها لا تحتفي بقضايا الحياة ودرامية الواقع ومأساويته. هي تحتفي بالمكان كمظهر :

في الطبيعة الجبلية، في الوديان والسهول، في المطر، في الاشجار والطيور لكنها لا تجوهر هذا المكان، ولا تتعمقه، ولا تصل لفلسفة وقلق ساكن هذا المكان، أو حتى ترصد أفراحه وأتراحه.

لا أدري لمذا يصر أغلب الشعراء على هذه الرؤية. في الشعر لابد من تحول حتى على نطاق القيمة حتى على نطاق الرؤية/ الرؤيا، لكن فيما يبدو أن خلخلة البنى الشعرية على المستوى الموضوعي والقيمي تحتاج إلى هزة وفورة من الأسئلة.

في ديوان:» سهيل اميماني»احتفاء شديد بالمكان، لكنه مكان في المظهر لا في الجوهر. لا تختلف رؤيته عن رؤية الشاعر الكلاسيكي.

ويؤكد إبراهيم طالع على هذه الرؤية في جل قصائد الديوان مثل: ارتعاش، تهامة، غيث، سهيل اميمانين حادي الشجن، وداع وغيرها من قصائد الديوان:

فإذا تهامة خصبنا

ونشيدنا

وجبال أبها تستطيل جلالا

إن الشاعر حين يصف الأماكن يقدم رؤية متعالية للمكان، غنه يسمه بالأفضل والأحسن والأعلى. وهي صورة تقليدية مسحوبة من زمن الشعرية العربية البعيد، (لأنت من الشعر أسمى، وأنت العشيرة، تتيهين عزا وأعلم أني وانت نمارس دهرا من العز لم يكتشفه البشر) /ص42 وهو أيضا في قصيدة (تهامة) ص 47 وما بعدها / يقدم رؤية تقليدية حيث يتغزل في تهامة، ولم يكتب مثلا عن مأزق الإنسان أو أشواقه، وتطلعاته، ورؤية إنسان تهامة للعالم، ألا يقدم الشاعر هنا صورة حالمة مكررة. فالقصيدة كأنها موضوع إنشاء مدرسي مطلوب على عجل:

ألملم ُ من تهامة كل معنى

وأغزل تربها غيدا ووالا

وأقرأ صفحة التاريخ فيها

فأعدم كل ما التاريخ قالا

إذا ترحت تنمقني دموعا

وإن فرحت فتطلقني احتفالا.

وباستثناء قصيدتي: هجرة وضاح، وإلى رجل أعمال يكرر شحبي الرؤية المكررة نفسها، لا يضيف ولا يضيء ولا يستقصي. ولا يقدم لنا شعور المكان نفسه والإحساس بتطلعات إنسان هذا المكان.

في هجرة وضاح قدر من الدرامية يحتاجها الشعر، وقدرمن الحزن والمأساة وتوظيف التاريخ والأسطورة، بحيث لا يكتفي الشاعر بصوته الغنائي فحسب. لكنه يصغي للأصوات الأخرى.

وفي قصيدة:» إلى رجل أعمال» ( ص. ص 129-134) يصغي الشاعر للصوت الآخر المهمش، ويخاطب رجل الأعمال في مقاع مسنونة صارخة أكثر مفارقة وأكثر سخرية معا :» لك العيد، الطير، والريح، والسهل، والماء والسنبلات، والحب والصافنات الجياد» حيث يستهل ويختم بالقول:

لك العيد يا سيد البر والبحر والأزمنه

لك العيد والبيد والأسئله

وحتى سراديب ما جن ّ في الأفئده

ثم يختتم بالقول:

لي الله يامن تسوق الملايين في كل أرض

تهدهدها تحت أقدام شقر النساء!!

ورغم ذلك اتصور أن الرؤية الرومانتيكية نفسها تمددت في أعمال إبراهيم طالع التالية خاصة: نحلة سهيل، إلأا من بعض النماذج وقد

رصدت ذلك في مقام آخر.

إن الشعر يتجدد دائما في تحولاته إلى درجة أن يناقض نفسه، ويتخلى طواعية عن لغته ورؤيته إلى لغة جديدة ورؤية جديدة، والشعراء الخلاقون هم من يفعلون ذلك وهم من يبتكرون ويجربون أكثر.

كما نرى في نماذج لعبد الرحمن الحفظي، وإبراهيم شحبي أحيانا، رغم ابتعاده قليلا عن الشعر، وعند الراحل عبد الله الزمزمي خاصة في ديوانه:” هذا أنا” وقد كتبت عنه مقالة في ثقافية الجزيرة قبل رحيله، ومن شعره:

أنا العمر يصرخ فيه الشقاء/ وحينا يغرد فيه الهنا

وهذي القصائد في بوحها / مراياي تنطق بعد الفنا

إذا حدّث الشعر عني غدا/ فأرهف له خافقا لينا

فخاصرة الشعر حساسة / وأخشى عليها بأن تطعنا

إذا ما وجدت بقلب القصيد/ مشاعر صدق فتلك أنا

وعند مريع سوادي الذي ينوع بين غنائية العبارة الشعرية ودراميتها، وطول القصيدة وقصرها وكثافتها،( نادي أبها الأدبي، ط1 / 2002م) كما في ديوانه:” وشايات قروية”.

كما في قصائد : ظنون في حضرة أبي، وسفر الروح،ووشايات قروية، وغيمتي وغرق الأسفار وفيها يقول:

أزيحوا غيمتي إني سأغرقها بأسفاري

وأرصفتي وما حملت سأشكوها

لأغراسي وأصدافي

وأرغفتي التي احترقت،

وساعة حائطي الثكلى

سألثمها بما تنزف

بما ترجف

وإن جادت لي الذكرى

حملت ُ الآه في المعطف

ولعل في تجربة الشاعر محمد زايد الألمعي الذي – وللمفارقة الكبيرة لم يصدر ديوانا واحدا حتى الآن- ما يشي بالكثير من التأمل، فهو على نقيض ما يتبدى من غزل بالمكان، ومن مديح ظاهري له أو حتى باطنين لأنه دائما في حال اجتراح شعري، وفي حال بحث عن درامية مسنونة يقدم عبرها نتاجه، وقصائده الكثيفة التي ينشرها وينثرها ما بين مجلة أو موقع الكتروني تؤكد على قيم جمالية مثلى عنده.

تتمثل في هذا القلق الإنساني من الأشياء وفي نقد التعصب القبيلي، والتحزب الفكري. قصيدة محمد زايد الألمعي التي قد تدرج في ذاتيتها

المتكسرة المتشظية كما في قصيدة :” في مهب الطفولة” أو قد

تستوي في بعدها الناقد لقيم القبيلة والتعصب كما في قصيدة:”

عندما يهبط البدو” ولا تثريب علينا هنا لو أصغينا لمشهدين منهما:

عندما يهبط البدو تصحو

المدينة من بين فولاذها

ذاهلة

والنساء يرتبن أوقاتهن

بكيد الغواية

كي ينصرفن إلى راحة القافلة

ينتفضن لأضيافهن من الكسل المتخشب في مخدع العائلة

محمد زايد الألمعي: في مهب الطفولة

عند فاصلة ٍ في مهب ِّ الطفولة،