الشاعر العراقي سيظل قوياً في حضوره، مخلصاً في تجربته، متوهجاً في عطاءه، قريباً دائماً من المجتمع الذي يشاطره حزنه الكبير وفرحه الصغير.. هذا هو الشاعر العراقي الكبير يحيى السماوي يقدم لنا من خلال هذه المطارحات المستفهمة عن كُنه العلاقة بينه وبين الشعر، إضافة إلى قضايا كبيرة أخرى تهم القارئ وتحقق للمتلقي المتعة الفائدة ..
فبلا مقدمات مطولة ها نحن ندخل مع الشاعر السماوي فضاء الحوار الذي جاء على هذا النحو:
أين أنت الآن بعد عقود من الشعر، وأعوام مع الغربة؟
أنا الآن في اللا معنى، أقف على تلّة القلق مثل نخلة تفرع وسط الريح; جذري في مكان، وظلي في مكان آخر، مترقباً اللحظة التي تجتمع فيها غصوني بجزورها.. اللحظة التي أطوي فيها خيمة غربتي لأنصبها في مدينة السماوة; لأغفو إغفاءتي الأخيرة دون كوابيس بعد أن يعود العراق واحة طمأنينة وبيتاً للجميع، لا كحاله الآن حيث يبدو وكأنه مسلخ بشري، أو تابوت على هيئة وطن، ومحرقة طائفية.
بعد هذه الرحلة: ماذا أعطاك الشعر؟ وما الذي أخذه منك؟
أعطاني عشيرة باتساع الأبجدية، لا تعرف غير المحبة والود. أعطاني أصدقاء رائعين أضاؤوا بقناديل محبتهم كهوفَ المنافي ووحشتها «وأنت منهم».. وأعطاني وطناً مستعاراً من الورق.. أما الذي أخذه مني، فكثير يا صديقي، بدءاً من مهنة التدريس التي كنت أعشقها، مروراً بخبز الطمأنينة الذي كنت أتناوله على مائدة الكسل، هناك في بيت أبي، على مقربة من تنور أمي، وانتهاءً ببقايا العافية.. لكنني لست نادماً، فالشعر هو المرض الوحيد الذي يملأً روحي بالعافية، وأستعذب من أجله أقسى العذابات.
خلال نصف القرن عصفت بالعالم تحولات كثيرة وكبيرة; كيف ترى واقعها الآن؟ ومن الرابح والخاسر في هذا السباق؟
ما يُؤسف له أن هذه التحولات كانت لصالح دول وشعوب النصف الشمالي من الكرة الأرضية، المتنعم بالرفاهية والرغد أساساً، على حساب دول وشعوب النصف الجنوبي منها، والمتخمة فقراً وتخلفاً على الرغم ما تتوافر فيها من مقومات ومستلزمات الرقي والنهوض; لأن دول النصف الشمالي وبخاصة الممسكة بصنع وتنفيذ القرار السياسي العالمي لا تريد الإخلال بنظرية وجود عالم متقدم، وآخر نامٍ أو مختلف.. النصف الشمالي هو الرابح، وأما الخاسر فالنصف الجنوبي، ونحن منه، وسنبقى نزداد خسارة ما لم نكن أصحاب فعل، وليس مجرد دول وشعوب «ردود أفعال».
أيهما أشد وقعاً على الشاعر السماوي; سنيّ الغربة، أم أيام الحرب الدامية في الوطن؟
فأس الغربة قد يهدم المغترب، أو يستأصل غصناً من شجرة حياته.. أما فأس الحرب فإنه يهدم الوطن كله، قد يطيح بكامل الشجرة.. وإذا كان للغربة بعض منافعها، فإن الحروب تخلو من أية المنافع للشعوب وللإنسانية، وبخاصة الحروب العدوانية الكولونيالية أياً كانت شعاراتها وذرائعها.
مشهد الشعر العربي; ما توصيفك له؟ وهل ترى رهاناً غير مأمون في زمن العولمة؟
أعتقد أن عافية الشعر من عافية المجتمع، وإلا لماذا كان شعر العصر العباسي أكثر عافية وإبداعية من شعر العصر الأموي أو شعر ما يعرف بعصر «الفترة المظلمة»؟ إن حالة الأمة الآن هي حالة متردية، ولابد أن تنعكس أثارها على الفنون الإنساني كلها بما في ذلك الشعر. لكن الشعر سيبقى راسخاً في وجداننا، ولسبب جوهري، هو أننا أمة شاعرة، أمة بلاغة وبيان، أمة القرآن. سيبقى الشعر ما بقي الحزن والفرح والعاطفة، وسينهض من كبوته الراهنة حيث تنهض الأمة من كبوتها.
ما الفرق بين الصعلكة في الشعر القديم والعولمة، والعولمة في الشعر الحديث؟
كان الشاعر الصعلوك مخلصاً لقضية إنسانية يؤمن بها، وكان أكثر إخلاصاً للشعر، بل وأكثر زوداً عن الثوابت الأساسية ومكارم الأخلاق، فالشاعر الصعلوك هو في الحقيقة تأثر ضد التوزيع غير العادل للثروات، هو نصير الفقراء وليس لصاً وقاتلاً أشراً، كما في قول أميرهم عروة:
أوزع جسمي في جسوم كثيرة
وأحسو قراح الماء والماء بارد
أما في زمن العولمة فلا ثمة شاعر صعلوك. وإذا وجد مثل هذا الشعر فإنه لا يعدو كونه شحاذاً منفلت الأخلاق لا يتوانى عن استجداء ثمن جرعة خمر أو علبة التبغ، وأنا أعرف الكثير من هؤلاء المنفلتين أخلاقياً، فهم أدعياء صعلكة وليسوا صعاليك حقيقيين.
النقد والنقاد في غفلة أو في إغفاءة عن الشعر; تُرى ما أسباب ذلك؟
السبب يكمن في الشعر نفسه يا صديقي. الناقد المبدع بحاجة إلى الشعر مبدع. فالطارئون على الشعر قد أسهموا ليس في إفساد الذائقة الأدبية حسب، إنما وفي خلق حالة الإحباط لدى الناقد. ومع ذلك ; فنهر النقد لم ينضب ;لأن الشعر الحقيقي لن ينضب هو الآخر.
هناك من يرى أن الأجناس الأدبية في طور الامتزاج والتداخل إلى درجة إمحاء الفوارق بينهما ; بمعنى أننا سنركن إلى «نص مفتوح» كما يقول بعض النقاد والدارسين; ما رأيك؟
من حق الشعر الاستفادة من بقية الأجناس الأدبية خدمة للقصيدة، والأمر نفسه بالنسبة للرسام والموسيقى والروائي وباقي العاملين في ورشة الكلمة الإبداعية، على أن تتوافر له الإمكانات المعرفية بتلك الأجناس كي يحسن الاستفادة منها خدمةً للنص أو العمل الإبداعي أليس «الكولاج » في الرسم هو مؤاخاة بين اللون والكلمة وأجناس أخرى؟
انطلق الرواد نحو التجديد الشعري في الشكل والمضمون بعد مراس طويلة مع اللغة ;ألا ترى- شاعرنا - أن جيل اليوم من الشعراء يبدأ التجديد دون سابق خبرة أو مران؟
مشكلة هؤلاء أنهم يعتقدون أن التجديد هو مجرد الخروج على الثوابت الأساسية للشعر، فهم يتحدثون عن « تفجير اللغة» على أنه عملية هدم ونسف للغة وثوابتها، وليس الغوص في بحرها لاكتشاف ما لم يكتشف فيه بعد من دلالات ومعانٍ . هؤلاء يا صديقي لا يعرفون الفرق بين الشعر والشعير، وليس بين المفعول به والمفعول المطلق، وإلا ما تفسيرك لهذا الاستسهال في كتابة شعر يخلو من الشعر؟!
كيف ترى هجمة الرواية الآن في العالم العربي؟ هل ستكون بديلا عن الشعر؟
أن أقرأ روايات كثيرا أكثر من الشعر، بل وأقرأ في التاريخ والنقد الأدب أكثر من الأثنين، لكنني لا أكتب إلا الشعر والنثر الفني، فأنا لا أخاف على الشعر من باقي الفنون، مثلما لا أخاف على تلك الفنون من الشعر، ما من جنس أدبي سيكون بديلاً عن الآخر. أعتقد أن الحديقة الجميلة هي تلك التي تتعدد فيها ألوان الزهور وأشكالها، وليست التي تكتفي بلون واحد وشكل واحد لزهورها.
ماذا تقول الشعر (غازي القصيبي) حينما هجر الشعر إلى الرواية؟
لن أصدق أن القصيبي هجر الشعر، فالقصيبي شاعر حتى في رواياته، بل وحتى في تعامله الوظيفي، أقصد أنه شفاف كالشعر وحادً كالشعر، لا أستبعد أن يفاجئك في غد قريب بديوان شعر جديد، كعادته في مفاجأة قراءة دائماً.
الشاعر السعودي سجَّل حضوره في المحافل الشعرية العربية; كيف ترى وقع الحرقة الشعرية السعودية تحديداً؟
وفي السعودية حرقة شعرية لا تقل عطاء وإبداعاً عن نظريتها في باقي البلدان العربية الرائدة شعرياً، وما هذا بغريب فالشاعر السعودي هو الوريث الشرعي لامرئ القيس وابن كلثوم والعبسي عنترة وابن الملوح وابن الورد وبقية شيوخ القصيدة العربية وساداتها. في السعودية الآن شعراء كبار فعلاً، شعراء وشاعرات ونقاد تتباهى بهم الأبجدية.
ماذا بقي للشعراء في سلاح في وجه قبحيات زمن المعمعة؟
بقي لديهم نفس ما بقي لدي الأمة من سلاح في وجه قباحة أعدائها، وبقي لديهم فضاءات أحلامهم والتي لن تطالها مخالب الذئب العولمي.
كل الحقوق محفوظة لمكتبة الملك عبدالعزيز العامة © 1446-2025