بقلم: صالح سليمان
عندما بدأت الفتاة الشابة هيلغا فايهي العمل في المكتبة العائلية في مدينة سالزفيدل الصغيرة في ألمانيا الشرقية السابقة، كان هتلر لا يزال يشعل أوروبا بالحروب... وبعد (73) عاماً، لا تزال أكبر بائعة للكتب سنا في بلادها تمارس نشاطها في سن الخامسة والتسعين.
هذه المرأة المنحدرة من عائلة فايهي بدأت العمل في 1944. وهي تمثل الجيل الثالث من العائلة الشغوفة بالأدب في إدارة هذه المكتبة التي فتحت أبوابها في 1840. وتعود الرفوف إلى ثمانينات القرن التاسع عشر في زمن جدها المستشار «أوتو فون بيسمارك»، هذا الاهتمام الذي يتمثل في هيلغا وعائلتها، ليس سوى امتداد لاهتمام الألمان بالكتب والكتاب منذ أكثر من 500 عام، أي منذ انطلاق أقدم معرض للكتاب في العالم وهو معرض فرانكفورت للكتاب واستمرار انعقاد هذا المعرض وازدهاره ومعه ععرض لايبزيغ للكتاب، اللذين يستقطبان الكثير من الزوار من داخل ألمانيا وخارجها.
الألمان وشغف القراءة
الألمان من أكثر الشعوب الأوروبية شغفاً بالقراءة، فهي جزء من عادتهم اليومية لا يمكن فصله عن نشاطهم اليومي، فهذا الشعب (الصناعي بامتياز)، يطالع أنواعا مختلفة من الكتب سواء الروايات أو القصص البوليسية أو الاجتماعية وهم لا يترددون في استثمار أوقات فراغهم القصيرة التي تتخلل يوم عملهم في القراءة، القراءة عندهم ليس لها وقت ولا مكان محدد، فهم يقرأون في المواصلات العامة والخاصة.
في الحدائق المتنزهات، في أوقات الانتظار في عيادات الاطباء وفي المتاجر، كذلك فإنه قلما يخلو بيت من بيوت الألمان والأوروبيين من مكتبة شخصية.
الكتابة الإبداعية في ألمانيا
وبسبب هذا الشغف بالقراءة وربما يكون من نتائجه أيضا نجد أن الاتجاه نحو الكتابة الإبداعية هو اتجاه قوي في ألمانيا منذ زمن، سواء من حيث زخم المؤلفات الأدبية أو من حيث تعليم فن الكتابة للآخرين على يد كثير من الكتاب الذين يعقدون دورات تعليمية في هذا الفن، كما رفعت المدارس الشعبية ومعاهد تعليمية أخرى من مستوى موادها التعليمية، حتى أنك إذا دخلت مكتبة كبيرة تلمس انتشاراً واسعاً للمؤلفات التي ترشد إلى طرق الكتابة الناجحة.
ومن العناوين البارزة حول ذلك كتاب «الأخذ بيد الكتاب الجدد» و«كيف أكتب كتاباً يحقق مبيعات قياسية»، وفي الوقت ذاته تظهر وسائل الإعلام اهتماماً متزايداً بالكتاب الناشئين، وبالتحديد الذين يتمتعون منهم بموهبة فعلية، تمكنهم من خوض مسيرة التأليف الأدبي بكل نجاح.
فألمانيا بلد الكتاب والأدباء والشعراء وبلد التأليف, فكل عام يدخل سوق النشر (100) ألف كتاب جديد، وتمتلئ رفوف المكتبات بكم هائل من الكتب التي تطرح في مكتبات ألمانيا سنوياً، وتشتهر هذه البلاد كما أسلفنا بمعارض الكتب التي تُقام على أرضها في أوقات مختلفة من السنة وأشهرها معرض فرانكفورت للكتاب الذي يُقام في أكتوبر من كل عام، ومعرض لا يبزيغ الذي يقام في شهر مارس.
لقد بدأ معرض فرانكفورت للكتاب خطواته الأولى فى القرن الخامس عشر، حيث كان معرضاً لإنتاج رائد طباعة الكتب الألماني, يوهانس غوتنبيرغ. وفي منتصف القرن السادس عشر فقد معرض فرانكفورت أهميته وتفوق عليه معرض لايبزيغ لأسباب سياسية واجتماعية.
وبعد انقسام ألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية عاد للمعرض مجده وتطور باستمرار ليصل عدد الكتب المعروضة إلى ما يزيد على (400) ألف كتاب وأصبحت مساحته (172) ألف متر مربع موزعة على خمس صالات عرض كبيرة، كل منها مقسم إلى (13) قاعة. ووصل عدد زواره في العام المنصرم (2019م) إلى (302267) زائراً بزيادة 5,5 % مقارنة بالعام الماضي (عام 2018: 285024)، كما زاد عدد الزائرين المتخصصين هذا العام على (144) ألفاً.
إذن فهذا المعرض بزخم عدد زواره، وعدد الدول ودور النشر المشاركة فيه وحركة البيع والشراء التي تجري أثناء افتتاحه، يعطينا صورة عامة عن حال الكتاب في ألمانيا.
صناعة النشر هنا منتعشة
يؤكد القائمون على معارض الكتاب في ألمانيا أن صناعة نشر وبيع الكتب في ألمانيا منتعشة ولا توجد أي مؤشرات على أنها تشهد تراجعا، فخلال السنوات الثلاث الأخيرة أسس عددا من الاشخاص دورا للنشر في ألمانيا. لذلك فإن هذه الصناعة تجدد نفسها، ولدى المانيا منظومة متنوعة وفعالة من دور النشر التي نلبي احتياجات جمهور القراء بأكمله سواء الشغوفين بالمعرفة أو الباحثين وكذلك الذين يقرءون من أجل المتعة.
وبالاطلاع على دليل المكتبات الألمانية نجده يضم حوالي 15000 شركة، لنشر الكتب بعضها يقدم على نشر الكتب في بعض الأحيان. وبشكل عام فإن الوضع الاقتصادي لصناعة النشر في ألمانيا يعد صحيًا : حيث استطاعت هذه الصناعة أن ترفع حجم مبيعاتها منذ عام 1992 بنسبة 53 بالمئة. وتشير التقديرات الأولية إلى ارتفاع الحجم الإجمالي للمبيعات منذ عام 2010 إلى أكثر من 5.4 مليار يورو.
ورغم هذا الانتعاش في سوق النشر والكتاب إلا أن هذا لم يمنع وجود مصاعب تواجه المؤلفين الناشئين الذين قد لا يجدون دور نشر تتولى نشر أعمالهم, حيث يحرص الناشرون على الأدباء المعروفين ومؤلفاتهم التي يمكن تسويقها بنجاح بحسب موقع (DW) الألماني.
وقد تمكنت هذه الدور من حصد أكبر قدر ممكن من الأرباح. لكنها لا تظهر اهتماماً يذكر بأعمال مؤلفين غير معروفين ويبقى اهتمامها محدوداً بالكتاب الشبان على الرغم من وجود عدد كبير منهم، ممن يحاولون الكتابة والنشر ويرسلون نصوصهم إلى دور النشر، التي تتلقى عدداً ضخماً منها كما تقول مراجعة النصوص لدى دار نشر سوركامب، شارلتوته برومباخ.
المكتبات في ألمانيا
يقدر عدد المكتبات الألمانية الهامة بألفي مكتبة تتنوع بين مكتبات عامة وجامعية ومكتبات تابعة للكنائس والمتاحف والمدارس وأخرى تابعة
للولايات والمدن الكبيرة إضافة إلى المكتبات المتخصصة في العلوم أو الآداب، وتحظي
المكتبات بشكل عام بإعجاب الزوار كافة انطلاقاً من تصميمها الهندسي الرائع الذي يحافظ في الغالب علي طابعها المعماري القديم، وأيضا بسبب النظام والخدمة المقدمة للزوار في ظل ما تزخر به كل مكتبة من أمهات الكتب، بل وربما هذا الإقبال سببه الهدوء الشديد الذي يخيم علي المكان مما يساعد علي التركيز، فالمكتبات الألمانية تشتهر بشكل عام بالمناخ المساعد، فبجانب النظام فإن المقاعد وثيرة ومريحة وصحية تساعد بشكل كبير على الجلوس لفترات طويلة حتى لا يمل الأفراد من القراءة.
كما أن المكتبات التجارية تنتشر في المدن الألمانية الكبيرة، وتتعدد طوابقها، وهي مزدحمة بالناس طيلة الوقت، وتزدحم بشكل كبير في مواسم الاحتفالات لإقبال الناس على شراء الهدايا من الكتب، فالكتاب عند الألمان يعد من الهدايا الثمينة، ورغم أن هذه المتاجر تبحث عن الربح من خلال البيع والاتجار في الكتب إلا أنها تسمح بحق الاستعارة الداخلية، ويمكن للزائر أن يطالع أي من الكتب التي تطالها يداه طيلة الوقت الذي هو بداخلها.
اتحاد المكتبات
ويجمع المكتبات في ألمانيا اتحاد يطلق عليه الاتحاد الألماني للمكتبات ومقره في برلين ومن أهم وظائفه ربط المكتبات بالمجلس النيابي الألماني والوزارات الألمانية المعنية وبالجهات العالمية التي تهتم بالثقافة، ورغم كل هذا الاهتمام بالكتب والمكتبات ومحاولة تحسينها وتوفيرها في المجتمع إلا أن المتحدث باسم رابطة الكتب والمكتبات صرح مؤخراً بأن صورة المكتبات لدي الشعب الألماني في حاجة إلى التحسين والتوضيح والتميز انطلاقا من أهمية دورها الثقافي والعلمي في المجتمع الألماني.
ويولي اتحاد المكتبات الكثير من العناية بكتب الأطفال والشباب وتعمل على تحسينها باستمرار، ولهذا السبب سارع الاتحاد بالمطالبة بمراعاة ميول الأطفال والشباب وبربط الوسائل الثقافية القديمة بالحديثة حيث يرى أن الكتاب لا يتعارض مع شبكة الإنترنت، ففي كثير من المجالات لا يمكن الاستغناء عن الكتاب كما أنه لا يمكن الاستغناء عن الشبكة في بعض الحالات أيضا.
الورقي في مواجهة الإلكتروني
في يناير 2018 قدمت وحدة أبحاث السوق الخاصة التابعة لرابطة صناعة الكتب بألمانيا بيانات تشير إلى هبوط لافت للنظر لدى المشترين للكتب، وهو تقرير أثار قلق الناشرين والبائعين على حد سواء، وأظهرت الأرقام أنه- باستثناء الكتب المدرسية والمراجع، انخفض عدد المشترين للكتب الألمان بواقع أكثر من ستة ملايين شخص في الفترة ما بين عامي 2012 و2016 واستمر هذا الاتجاه في عام 2017.
وهذا التطور لفت فقط انتباه الناس في وقت متأخر جدا نظراً لأن أرقام الإيرادات، الصادرة عن الضاعة ظلت مستقرة للغاية. والرقم الحقيقي للكتب، التي تم بيعها تراجع فقط بشكل طفيف، وسط اتجاه لعدد أقل من المشترين الذين يشترون المزيد من الكتب بشكل عام والكتب الأغلى ثمنا.
ويحدث ذلك ليس فقط فجوة متزايدة في السلوك الشرائي: بل مما يثير الانزعاج بشكل أكبر لصناعة الكتاب هو أن السلوك المتعلق بالقراءة يتغير.
وطبقاً لمعهد "الينسباخ" لاستطلاعات الرأي, أظهرت دراسة عام 2017 أن عدد الألمان الذين اشتروا كتاباً واحداً على الأقل مرة أسبوعياً تراجع من 49 بالمئة في عام 2012 إلى 42 بالمئة العام الماضي.
وقبل كل شيء هذا التراجع تم رصده بين القراء الأصغر سنا (14 إلى 29 عاما) بالإضافة إلى الجيل المتوسط (30 إلى 59 عاما).
وفي الوقت نفسه، وصل الاتجاه نحو قراءة عدد أقل من الكتب أيضاً إلى الأشخاص من المستويات التعليمية الأعلى.
وتشير الأصابع إلى مواقع التواصل الاجتماعي مثل، فيسبوك و"واتساب" و"إنستجرام" بوصفها أسباباً محتملة، حيث تتنافس مع الكتب بالنسبة للاهتمام ووقت القراءة.
وفي الوقت نفسه، فإن الكتاب الإلكتروني، طبقا لأحدث الدراسات، لم يثبت نفسه، إلى حد كبير، مع جيل من الشباب، يتمتع بالذكاء من الناحية الرقمية، بصورة أخرى, فحتى في أحسن النوايا، من الصعب للغاية قراءة كتاب على هاتف ذكي، الذي أصبح الآن الرفيق الأهم للبشرية.
وتظهر الدراسات أنه مازال من الممكن تحفيز المراهقين لقراءة الكتب. ومنذ سنوات، مازال عدد المراهقين من 12 إلى 19 عاماً، الذين يقرأون للمتعة مطرداً.
وطبقا لدراسة أكاديمية للشباب والإعلام لعام 2017، قام بها أحد معاهد الأبحاث في ولاية بادن-فيرتمبرج الألمانية، فإن فتاة واحدة من كل اثنتين وفتى واحد من كل ثلاثة، يقرأ كتباً بشكل منتظم.
الناشرون أمام أرقام الكتب الإلكترونية رغم عد ثبوتها لا يريدون الاستسلام ويؤكدون تفوقهم في صناعة الكتاب ونشره لأنه هو المصدر الرئيس للمعلومات والمعارف.
المراجع
- موقع ألمانيا بالعربي
- موقع دي دبليو (DW)
- مجلة فكر الثقافية
- الموسوعة الحرة (ويكيبيديا)
- دار الفكر 13 يناير 2013
- المكتبة الرقمية السعودية
- مجلة القافلة يناير 2016
- صحيفة إيلاف الإلكترونية 2 مارس 2010
كل الحقوق محفوظة لمكتبة الملك عبدالعزيز العامة © 1446-2025