تنبيهات

الثورة المعلوماتية وتأثيرها في فكر المجتمع وسلوكه

الثورة المعلوماتية وتأثيرها في فكر المجتمع وسلوكه

د. أميرة كشغري


قد يبدو بديهياً أن نعترف بانتشار الثورة المعلوماتية وتأثيرها في أسلوب حياة الشعوب والأفراد في كل العالم من أقصى شرقه إلى غربه، ومن أقصى شماله إلى جنوبه. فقد تميزت نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين بثورة معلوماتية مذهلة، أثرت بدورها وبشكل ملحوظ في إعادة صياغة بنية المؤسسات الاقتصادية والفكرية والتعليمية والاجتماعية. كما كان لها تأثير بالغ في أساليب التعامل فيما بين الأفراد، وكذلك فيما بين الأفراد ومحيطهم الاجتماعي المحلي والعالمي في شتى الجوانب المعرفية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.


وبداية لا بد من الإشارة إلى أن معظم الأبحاث والدراسات حول المعلوماتية قد ركزت على الجوانب السياسية والاقتصادية في الوقت الذي لم تنل فيه الجوانب الاجتماعية والتغير الاجتماعي الذي فرضته الثورة المعلوماتية ما تستحقه من اهتمام وبحث.

 فالدراسات التي تناولت الآثار الاجتماعية للمعلوماتية ما زالت محدودة، ويبدو هذا النقص واضحاً في دول الجنوب التي كانت في الغالب، وخصوصاً في بدايات تلك الثورة، مجرد مستقبلٍ لآثار المعلوماتية والعولمة.

إن من أهم مظاهَر الثورة المعلوماتية هذه سرعة انتشار المعلومة والتزايد المستمر في حجم المعلومات المتاحة وانتشارها الكثيف بين البشر. كما تميزت المعلومة بقدرتها على الوصول إلى أكبر عدد من المستخدمين بسهولة، بالاضافة إلى سهولة تخزينها وتوثيقها وأرشفتها. وتشير بعض الإحصائيات إلى أن مستخدمي الانترنت في المملكة العربية السعودية قد وصل إلى 10 مليون مستخدم، كما أن هناك 4.6 مليون مستخدم سعودي للفيس بوك وما يقرب من المليون مستخدم للتويتر.

إن وجود هذا العدد الكبير من مستخدمي الانترنت، وبشكل خاص على مواقع التواصل الاجتماعي، كان له بالطبع عدداً من الآثار. فنتيجة للتواصل الخارجي الذي وفرته الثورة المعلوماتية، أتيحت للمجتمع السعودي مجالات جديدة للاطلاع على ثقافات العالم المختلفة وبدأ المجتمع في الخروج تدريجياً من العزلة الثقافية والفكرية النسبية، مقارنة بالمجتمعات المجاورة مثل مصر أو لبنان. وعلى الصعيد الداخلي ساعدت الثورة المعلوماتية على تقليص سيطرة النخب، وبرز دور الجماهير في تحريك قضايا الرأي العام، حيث أصبح الأفراد أكثر جرأة في طرح الأفكار ومناقشتها بشكل شفاف، حتى وإن تميزت نقاشاتهم بالحدية والقطبية أو - في بعض الأحيان - بالخارج من الكلام.

من الطبيعي أن العزلة النسبية التي كان عليها مجتمعنا قبل دخول عصر الثورة المعلوماتية تؤدي بالضرورة إلى أن يكون تأثيرها عليه أكبر منه في المجتمعات الأكثر انفتاحاً. ففي الدول الغربية، على سبيل المثال، والتي تمتعت بقدر من الانفتاح والتعددية الفكرية قبل ثورة المعلومات الإلكترونية، لن يكون تأثير الإعلام الجديد فيها بذات القدر الذي يحدثه في المجتمعات القادمة من عزلة نسبية. كما أن تأثير الانترنت لن يكون كبيراً بذات القدر على إحساس الفرد بالحرية في تلك المجتمعات، لأن تلك المساحة من الحرية ومن الشعور بها هي موجودة أصلاً قبل المعلوماتية وبعدها. على الطرف الآخر، نجد أن الإحساس الجديد المتولد لدى الفرد السعودي بالقدرة على ممارسة حرية التعبير والقدرة على التأثير - سواءً كان هذا الإحساس حقيقياً أو متصوراً - يبدو أكثر وضوحاً في المجتمع السعودي مقارنة بغيره من المجتمعات الأخرى.

ويبدو التأثير الأكبر للثورة المعلوماتية في المجتمع السعودي جلياً في قدرة هذه التقنية على فرض نمط جديد من التفكير يقلب ما اعتدنا عليه من الانعزال ورفض الآخر. ولعل هذه هي في رأيي أهم سمة لتأثير المعلوماتية في مجتمعنا. ففي أي مجتمع ألف العزلة تقليدياً، تشعر كل مجموعة، بغض النظر عن موقفها الايديولوجي، بأنها هي الممثل الشرعي والوحيد لما هو صحيح، وأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال تصور وجود صور مغايرة لما تعتبره صحيحاً وحقاً، بل حتى تصور وجود هذه الصورة المختلفة هو من قبيل غير المعقول فضلاً عن الإقرار به أو تقبله.

ومع انتشار المعلوماتية وتعرض الفرد للمعلومات والصور المختلفة بكثافة سواء من خلال الانترنت عامة أو من خلال مواقع التواصل الاجتماعي بدأت الكثير من هذه المواقف تتفكك، بل وتزحزحت الكثير من هذه الاعتقادات التي كانت ترى صورة واحدة ولا تتصور وجود شكل آخر. الثورة المعلوماتية نجحت أيضاً في فتح آفاق جديدة يرى من خلالها الفرد أن كل المجتمعات في العالم بها ذات التنوع وذات الاختلاف بل وحتى ذات التطرف. فمثلاً كنا نعتقد أن المجتمع السعودي خالٍ من الإيدز وأن الفرد السعودي بعيد عن ظاهرة المخدرات، وغيرها من الصور النمطية المسبقة والتي تبددت مع الثورة المعلوماتية التي أتاحت المعلومات الحية والمتواصلة عن هذه الظواهر بشكل أصبح مألوفاً وطبيعياً. إن زحزحة هذه المعتقدات، وإن لم تسهم في قبول الرأي الآخر، إلا أنها أسهمت في الاعتراف بوجودها، وإن كان ذلك الاعتراف مصحوباً في البداية بمحاربتها والهجوم عليها.
وعلى الرغم من كل هذه الآثار الإيجابية في تفكير السعوديين والتي خلقتها ظروف الثورة المعلوماتية إلا أن هناك آثاراً سلبية تبدو واضحة على سلوك الأفراد من خلال أسلوب تعاملهم مع الاختلاف في الرأي. إن توفر الحرية للأفراد للرد على المختلف بسرعة وسهولة من خوف من رقيب أو عقوبة أبانت عن قدر موجع من تغلغل أسلوب الشتم والسباب والتجريح الشخصي من يطرح رأياً أو موقفاً مغايراً لما يعتقد البعض أنه الحقيقة الكاملة. فالحوار والتفاعل الحي بين الجماهير من خلال شبكات التواصل الاجتماعي أصبح ساحة للهجاء الشخصي والتخندق القبلي والطائفي، غير أنه الممكن أيضاً أن ننظر لهذه الظاهرة على أنها مرحلة انتقالية لا يتجاوزها الأفراد إلا عن طريق المرور بها.

 إن الثورة المعلوماتية لا تعرف حدوداً، بل هي إحدى عمليات هدم الحدود التقليدية في رحلة إعادة صياغة الفكر والسلوك. إنها سفينة مبحرة نحو مرفاً قد يطول الوصول إليه وقد تعترضه الأمواج العاتية لكنها وبكل تأكيد سفينة مبحرة دون شك. هي سفينة دون ربان والقائد فيها من استطاع تسلم مهام توجيه دفتها نحو ما يخدم الإنسانية ويوفر لها المزيد من الأمن والتقدم.