سعود آل سمرة
شاعر وقاص سعودي
في قصيدة الضيف المنسوبة للحطيئة تظهر شعرية النص في قالب قصصي تتجلى فيه الكثير من أبعاد سرد المكان والزمان والإنسان ومشاعر نفسية متوترة نتيجة بواعث وثيمات متعددة في مشاهد درامية مترابطة، ملمح لصراع الإنسان الأبدي مع الطبيعة وتحولاتها وارتباط هذه التغيرات بالمكان وما يخفيه الزمن من سيرورة غير منتظمة مرتبطة من جهة بحبل سري مع القدر ومن ناحية مع واقع اعتباطي الحدث دون أن يترك للعقل أي فرصة للتوقع فهو مجبول على المفاجأة والمباغتة ورغم ذلك هناك دائما مؤشرات يمكن أن تقاس بها الأمور في حدود المعقول والمحسوس ويظل تصور الأشياء قبل حدوثها مطويا في رحم الغيب بعيدا عن أفق التوقع..
بدأت مخيلة الشاعر برسم صورة للفضاء الزمكاني الذي دارت فيه الحادثة المتخيلة، قصة لعائلة عربية معزولة في صحراء نائية، تكابد الجوع والفاقة والتوحش و ضيق الحال، يرون كل ذلك سعة ونعمة، لأنهم حتما يتوقعون الأسوأ، لسان حالهم قول الشاعر:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
وصوت إنسان فكدت أطير..
مهد للقصة بصورة كاشفة للمكان والزمان وحالة الشخصيات النفسية والبدنية..
وَطاوي ثَلاث ٍ عاصب ِ البَطن ِ مرمِل
بِتيهاءَ لَم يَعرِف بِها ساكِنٌ رَسما
أَخي جفوَةٍ فيهِ مِنَ الإِنس ِ وَحشة
يَرى البُؤس َ فيها مِن شراستِهِ نُعمى
وَأَفرَدَ في شعب ٍ عَجوزاً إِزائَها
ثَلاثَةُ أَشباح ٍ تَخــالُهــُمُ بَهــما
الزمان ليلة ظلماء رهيبة والمكان صحراء جرداء خالية من كل معالم للحياة والأنس بعيدة عن كل رافد للنجاة، انقطاع عن النجدة والأمل حتى في انتظار أدنى تغيير للمصير الذي لابد أن تقود إليه هذه الحال المزرية بعد أن قطع من أجل ذلك كل أواصر التواصل وروابط التعايش مع الناس، جفوة وعدم استئناس، فتبدلت لديهم النظرة إلى الحياة حتى أمسى الإنسان يرى بؤسه وفاقته نعمة وراحة بال وكأنه وجد فردوسه الخاص الذي اختاره في مخالفة للمألوف، يستطيب العذاب والجوع والنصب، كما ينعم الناس بالأنس والاجتماع وكفاية العيش، ولم يكتفي بتعذيب نفسه بإقصائها بل جلب إليه الأهل أقرب الناس زوجه وبنيه يصف حالهم الشاعر فشبههم بصغار الغنم الهزيلة..
هذه الأبيات المدخل للقصة هيأت ذهن المتلقي بهذه الصورة المرعبة لما سيأتي بعدها من تصاعد للحدث المأساوي، يصف الشخوص والمكان والزمان باستعارة كل كلمة أعانته على تشكيل الصورة وتكوين أجزاءها في لمحة خاطفة كمقدمة مذهلة لقصة ورغم أن هذه الصورة كانت مأساوية جدا إلا أنه حاول إظهارها على أنها نقطة استقرار يمكن أن ينشأ عندها أزمة فاضحة تكشف حالة النقص والحاجة للتغير أو الاندثار والزوال ويمكن تلمسها في هذه الإشارة «يَرى البُؤس َ فيها مِن ش َ راس َ تِهِ نُعمى»..
– مفردات المقدمة:
وطاوي ثلاث: من شدة الجوع وحدد الزمن بثلاث ليال وهي كافية لأن
تلصق ظاهر البطن بأقصى الجوف.
مرمل: خالط جسده الرمل والغبار لانعدام المؤونة والماء فهو إلى جانب الجوع منقطع عن مقاربة الماء لضعفه وهوانه فأصبح لا يهتم بجسمه ينقيه مما علق به.
بتيهاء: بعيدة نائية لم يعرف بها ساكن رسما؛:لم يسكنها إنسان منذ زمن وربما ما سكنها أحد قبله لعدم قابلية الحياة فيها.
أخي جفوة فيه من الإنس وحشة: مجاف للناس لا يستحب مخالطتهم ولا الاقتراب منهم.
يرى البؤس فيها من شراسته نعمى: تغير مفهوم البؤس لديه لتوحشه ففضله على مخالطة الناس.
وأفرد في شعب: هنا يشير للمكان بشكل أقرب.
عجوزا إيزاءها: يصور حالة العيال والأم ثلاثة أشباح: لفاقتهم وضعفهم صاروا كالأشباح لا يكاد يرى لهم هيئة أو صورة تخالهم بهما: شبههم بصغار الغنم لتغير هيئاتهم وعدم وجود ما يستر أجسادهم الهزيلة..
الأزمة:
رَأى شبَحاً وَسط َ الظلام ِ فَراعَهُ
فَلَمّا بَدا ضَيفاً تَسوَّرَ وَاِهتَمّا
وَقال َ اِبنُهُ لَمّا رَآهُ بِحيرَةٍ
أَيا أَبَت ِ اِذبَحني وَيَسر لَهُ طعما
وَلا تَعتَذِر بِالعُدم ِ عَل َّ الَّذي طرا
يَظنُّ لَنا مالاً فَيوس ِ عُنا ذَمّا
فَرَوّى قَليلاً ثُمَّ أَجحمَ بُرهةً
وَإِن هوَ لَم يَذبَح فَتاهُ فَقَد همّا
مفاجأة غير متوقعة أخذت حياة هذه الأسرة إلى الأسوأ، حين أهل الضيف بالرغم من إذعانهم لما ألم بهم وقناعتهم بما آل إليه الحال لن يستطيعوا الصبر عن إقرائه فبمجرد مشاهدة خياله قادما أصابتهم حالة حزن شديد لتخوفهم من الفضيحة التي ستطالهم إن قصروا في إكرامه، فهو لا يعلم بما هم فيه من ضيق حال والقلق الذي أصابهم كان الدليل على أنهم استسلموا لواقع الحال وخط حياتهم استقر على هذا المستوى من الفقر والبؤس..
يتضح ذلك من قوله: فلما بدا ضيفا تسور واهتما..
وفي خضم الأزمة بدأ التفكير في الحل ودار الحوار بين أفراد العائلة ليقترح الإبن المسكين حلا مروعا زاد من ذهول والده المهموم، قال: اذبحني يا أبي فلعل الضيف يظن أن لدينا ما نطعمه ونضن به عليه فيفضحنا عند من لا يعذر ويصمنا بالبخل والشح وهو عار كبير يفضل الموت عليه، ورغم بشاعة الاقتراح الذي لا يمكن لعاقل أن يقبل حتى التفكير فيه، راودته النفس فهم بذبحه في لحظة يأس لشدة الحرص على إكرام الضيف، «فروى قليلا ثم أحجم برهة وإن هو لم يذبح فتاه فقد هما» ..فلما أجمع أمره وهم بفعله حدث شيء غير مجرى الأحداث ولم يكن في الحسبان..
الحل:
فَبَيناه ُ ما عَنَّت عَلى البُعدِ عانَة
قَدِ اِنتَظمت مِن خلف ِ مِسح َ لِها نَظما
عِطاشاً تُريدُ الماءَ فَاِنساب َ نَحوَها
عَلى أَنَّهُ مِنها إِلى دَمِها أَظما
فَأَمهلَها حتّى تَرَوَّت عِطاشها
فَأَرسل َ فيها مِن كِنانَتِهِ س َ هما
فَخرَّت نَحوص ٌ ذات ُ جحش ٍ سمينَةٌ
قَدِ اِكتَنَزَت لَحماً وَقَد طبِّقَت شحما
مفاجأة ثانية غير محسوبة وحدث أسطوري يشبه الفداء.. بعد أن هم الأب بجلب آلة الذبح رأى على بعد عند الماء قطيعا من البقر الوحشي واردة متشوقة للماء وهنا بدأت الأزمة تنحو نحو الحل وانصرف الأب بكنانته وقوسه عن ما هو فيه من فزع وانهمك يطوي المسافة صوبها ليكمن على ظمأ منه لدمها وبعد صبر على الانتظار حتى تشرب وترتوي أطلق سهما في جسد أإحداها، بقرة مكتنزة الشحم واللحم وكان سقوطها بداية انجلاء الهم والغم وانفراجا للمأساة وأخذت الأمور تعود لحالة الاستقرار من جديد بتدخل القدر أو الحظ الواهب ليسد النقص والحاجة لبعض الوقت..
نهاية سعيدة:
فَيا بِشرَه ُ إِذ جرَّها نَحوَ قَومِهِ
وَيا بِشرَهم لَمّا رَأَوا كَلمها يَدمى
فَباتَوا كِراماً قَد قَضوا حق َّ ضَيفِهم
فَلَم يَغرِموا غُرماً وَقَد غَنِموا غُنما
وَبات َ أَبوهم مِن بَشاشتِهِ أَبا
لِضَيفِهمُ وَالأُمُّ صارت لهم أما
تبدلت حالة الذعر من العوز وعدم الإيفاء بحق الضيف غير الحاجة الشخصية للأسرة الفقيرة الجائعة إنما فيما يبدو أن أولويتها الآنية هي إطعام الضيف ولأجل هذه الحاجة هم الأب بذبح الابن أما بعد أن حدث الفداء صارت الحال إلى سعادة وفرح وصار الغرم الذي كاد أن يلحق بهم إما بالفضيحة وعدم أداء حق الضيف أو بذبح الابن غنما بعد أداء الواجب، أوقدت النار استبشارا بقدوم الهدية هبة الصحراء فداء للابن.
كان الدم المنهمر من كلمها ينضح غذاء لمشاعر البشرى وإيذانا بقدوم ساعة للخصب، لتتحول مشاعر اليأس والتوحش إلى إلف وسرور فعاد أفراد العائلة إلى طبيعتهم البشرية مضيافين يقبلون على ضيفهم بالبشر والترحاب حتى لكأن رب العائلة أبا للضيف وأمهم أمه، يسهرون على راحته وينشدون إسعاده.
العربي مهما بلغ من رداءة حال وفقر مدقع وانغماسا في التوحش له خلال وأعراف لا يمكنه التملص منها، وأهمها الكرم والعطاء حتى لو وصل الأمر إلى ذبح الراحلة أو يزداد جنونا ليهم بذبح الولد أعز ما لديه إن لم يجد غيره وفي هذه الحالات النفسية المتحولة مع كل حدث تعقيدا وهما ثم حلا للمصرور من السرور الكامن في النفس ينتظر الانفراج ما يشير إلى أن اعتدال النفس واستئناسها مرتبط بتوفر الحاجات الضرورية للإنسان بينما بدا أن للتوحش والانكفاء على الذات صلة بانعدامها أو الشعور بالتهديد لما بين يديه من أشياء وحاجات..،.
القصة: بدأت بمدخل مشوق، سلط الضوء على مكان نائي وقاطنيه، وصف موجز ومكثف للزمان والشخوص، ثم حدوث أزمة طارئة بعثت توترا وقلقا، كان كامنا فيهم، حادث طرأ على حياتهم، أيقظ هذا السكون المتوهم، وكاد أن يؤدي إلى مأساة أشد، تبين ذلك من خلال تموجات الحزن واليأس في مشاعر الأب المرتبك، وصدمته من استعداد الابن للتضحية، أصبح أسيرا بين أمواج هذا الإحساس قنوط بسبب انعدام الحيلة والمدد، وقلق يدفعه لليأس من الحياة، وربما كان على وشك القيام بفاجعة.
إحجامه ثم إقدامه كان داخليا، الصراع النفسي الرهيب وصل إلى نهايته حين هم بذبح الابن، لولا حدوث الفداء القدري بحضور القطيع المفاجئ الذي كان اكتشافه فجأة وحضوره إلى المشهد بداية التنوير والتحول نحو نهاية سعيدة وحل لأزمة عاصفة ومأساوية..
كانت نهاية قدرية بكل المقاييس تتناسب مع فوضى الواقع الملتبس، الذي غالبا ما يكون صادما وغير قابل للتفسير المنطقي.
وفي المشهد الأخير من اللوحة ظهرت صورة العائلة وهي في غاية السعادة بعد أن تدخل القدر ومكنها من إكرام ضيفها، كانوا في دأب وتنافس على تقديم احتياجاته وطعامه وإسعاده بوجوه طبع عليها البشر والسرور والحفاوة وكأنهم عائلته، في صورة مختلفة عما بدت عليه الصورة من مأساوية حين قدومه.
صورة قدرية، لم تكن منطقية طبعا ومنطقها القدري لا يتوافق مع المنطق السردي في النهاية، ولكن هذه هي الواقعية السحرية العربية، وهذا هو طابعها الجميل، نلمسه في الشعر العربي القديم وفي الموروث الشفوي الشعبي بصورة أكثر وضوحا.
كل الحقوق محفوظة لمكتبة الملك عبدالعزيز العامة © 1446-2025