بقلم: د.عماد الخطيب
إن لاستدعاء الشخصية التاريخية وعدّها رمزًا في الخطاب الشعري السعودي الحديث رونقه لدى الشاعر ولدى المتلقي، ومن ذلك قصيدة (الحيرة) للشاعر أسامة عبد الرحمن, التي نسجت خطابها الاستفهامي من خلال افتراض حوارية مبطنة تتكون من عدة أسئلة يلقيها الشاعر وتلقيها شخصياته من الصحابة الكرام رضي الله عنهم؛ فهو من جهة يلقيه على المتلقي المعاصر، ويريده أن يتعايشه كما كان ويستفيد منه في القادم من أيام، وهو من جهة يعتمد على أن الخطاب خطابان: ظاهره كلام الشاعر، وباطنه كلام الصحابي الجليل المقصود بالحدث الأكبر في حياته، والتساؤلات لا تحتاج إلى إجابة؛ لأنها خطاب من يعلم! فيتساءل:
من حاول أن يطفى نور الله فلم يفلح ؟ من قتل بلال
من أحرق عمار على الجمر..وصب عليه شآبيب نكال
من أهرق دم عثمان ..فسال وجه التوبة والأنفال ؟
فتختلط في الخطاب شخصيات الصحابة الكرام(أعني: بلالا، وعثمان، وعمارًا- رضي الله عنهم-) إلى جانب أحداث معاصرة في تاريخ العالم الحديث، وفكرة الاسترجاع لتحقيق الفائدة فكرة نعرفها، والجديد هو اقتراب الخطاب الشعري السابق من السردية الدرامية التي تصور حالة من ابتعاد مغزى الحدث الظاهر عن حقيقته؛ فلماذا نقتل من أجل الإصلاح وما ولّد القتل والعنف إلا قتلا أشد وعنفًا أكبر.. فلماذا نتكبر على حقيقتنا ونحن نعايشها ليل نهار، ولخ ّ ص الشاعر في خطابه السابق نتيجة ما يريده في آخر بيتين فقال:
من ساق إلى غصن الورد الآمن .. أسلوب وحوش الأدغال وأراق دم المسلم من أقصى الهند.. إلى أقصى الصومال؟
فكانت فكرة استدعاء شخصيات الصحابة الكرام ذات مغزيين تلخصهما الترسيمة التالية:
وإن كان الحدثان القديم المنتمي لخطاب حدث الصحابي الجليل، والحدث الجديد المنتمي لواقع التاريخ الجديد الذي يعايشه الشاعر – أقول إذا كان الحدثان لا ينتميان ظاهريًّا، فإنهما ينتميان في النتائج التي ولّدت عنهما من قتل وخراب.
كذلك من نتائج خطاب الشاعر أن إراقة دم المسلم ومواجهة المسلم للموت، كانت منذ فجر التاريخ فسلسلها الشاعر من بلال إلى عمار إلى عثمان (رضي الله عنهم) ورتبها خطابًا رامزًا يتأكد بما بعده فقال بعد ( من قتل بلال) :
من شنق مآذن دجلة في جنح الليل .. فمادت في الحال من سرق البسمة من مطلع فجر.. ووجوه الأطفال فكانت دلالة شنق المآذن دلالة راجعة لمقتل بلال صاحب المآذن.
ومآذن دجلة لا علاقة لها ببلال ظاهرة، إلا أنها تنبئ عما يحدث بعد مقتل بلال ومن هم مثل بلال، فبلال رمز لكل صوت آذان فقد بسبب الحرب، ولما قتل بلال، شنقت المآذن وقتلت، وسرقت بسمة الفجر فلا من يؤذن بطلوعه، كما سرقت بسمة الأطفال! فاتسع خطاب الاستفهام عن مقتل بلال الرامز ليشكل خطابًا رامزًا لكل ما تقدم، ونلخص الفكرة في الترسيمة التالية:
كذلك حضر الخطاب الرمزي في قصيدة (أمتي) للشاعر غازي القصيبي في ديوانه (الحم ّ ى) مؤشرًا استفهاميًّا وقد استدعى رموز القوة والإيمان والثبات في تاريخ أمتنا الإسلامية, ويتحدى من خلاله افتراءات المكابرين الجاحدين على تفوق أمة فيها محمد صلى الله عليه وسلم , ويرجع هذا التفوق إلى وجود أبطال رموز فيها أمثال طارق بن زياد, والمثنى بن حارثة, كما يذكر سبب تفوقها وعلوها على الأقوام بوجود القرآن الكريم ومنها فوق كل هذا خير البشر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, فهي أمة لن تموت من ضعف, بل ستظل خالدة أبد الدهر، فيقول الشاعر متسائلا:
تموتين ؟ كيف ؟!
وفيك “ محمد”
وفيك الكتاب الذي نو ّ ر
الكون بالحق حتى تو ّ رد
و”طارق “ منك
وفيك “ المثنى “
وأنت المهند
تموتين ؟ كيف ؟!
وأنت من الدهر أخلد
فيصبح استدعاء النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم والصحابة والأبطال رضي الله عنهم والقرآن الكريم لغرض ظاهر وقريب هو الفخر والاعتزاز، ولكنه استدعاء خطابي لغرض أبعد هو إقرار حال الذل الذي تعيشه الأمة، وتصوير لسان حال كل من يراها بأنها ستموت إن بقيت على هذا الخنوع، فيقو ّ ي الشاعر من عزيمة كل من يظن بموتها، ويبعث الأمل من جديد في أن أمة بها كل هؤلاء أمة حاضرها كماضيها ولا بد أن تكون هي الأمة الخالدة وإن ظهر غير ذلك، وتلخص الترسيمة التالية ما نريده:
ومن الخطاب الرمزي ذي المؤشر الاستفهامي نقرأ استدعاء الشاعر يوسف أبو سعد في ديوانه (البحر والضفاف) لتلك الأيام الخالدة التي حمل فيها أبطال المسلمين سيوفهم وشرقوا وغربوا فاتحين مجاهدين وكانت لهم الغلبة. ويقرن الشاعر تلك الحال بحال حال الأمة الآن وقد ملأها التمزق وتمكن عدو ّ ها منها، وقد استبدلت سيوفها بالكلام، كما استبدلت وحدتها بالتفرق، فيقول:
أواه ! ما جدوى التحذلق والتقعر في الكلام ؟!
أيفيد ما سلب الطغام صدى الكلام ؟!
ويضج ما بين الجوانح والشغاف
صوت ينادي لن يرف النصر إلا بائتلاف
يا أمة أبصارها برمت بمرأى الاحتلال !!
ويتساءل الشاعر عن أبطال المسلمين “أين هم؟”:
أين المثنى ؟ أين خالد ؟ أين من حملوا الحسام ؟
مستنكرًا حال الضعف، ويقرنه بأن:
الأرض تزرح في القلاقل , والتمزق والظلام
كذلك يقرن حال الضعف بأن:
العزم خدر فانزوى , والجفن نام
ويختم صورته فيقول:
الدرع أثقله الغبار وكم شكا الصدر الحسام
فالسيف يطلب حامله، والدرع يطلب صاحبه، وكلنا يعرف طريق العزة والنصر، ولكننا نكابر، ويمكن أن نلخص ما نريد بالترسيمة التالية:
وتحضر قصيدة الشاعر أبو سعد (لن تطفئوا مجدي) بخطاب رمزي
آخر -شبيه بما تقدم- ذي مؤشر استفهامي عند سؤاله عن غياب أبي
عبيدة, وصلاح الدين – رضي الله عنهم -, وقد استنجد بهم ذات يوم
الجرح الإسلامي، فيقول:
فالله أكبر , لا معين سوى الإله !
والجرح يصرخ يا أباه !!
هبوا فقد خفق الجناح على الجناح !
هبوا ليوثا مسرعين إلى الفلاح
ويقول : أين “أبو عبيدة “ أو “ صلاح “ ؟
ويتكرر النموذج الخطابي الاستفهامي الرامز نفسه لدى الشاعر عبد الرحمن العشماوي في ديوانه(عندما يئن العفاف) فستدعي شخصيات قادة الأمة الإسلامية المعاصرين؛ لتتشكل لدى المتلقي رغبة في وجود أبطال شكلوا خطابًا رامزًا وليتحقق لدى المتلقي معادلة أن الأمة الإسلامية قادرة على ولادة أبطال أمثالهم فيحضر أحمد ياسين, ويستدعي بأسلوب خطابي استفهامي رامز شخصيات الصحابة الكرام والتابعين والقادة المدافعين عن حمى المسلمين رضي الله عنهم: عمير بن وهب، وسعد بن معاذ، والمثنى بن حارثة, وخالد بن الوليد وسعيد بن العاص، وصلاح الدين، وهارون الرشيد، وقطز، فيقول في المطلع محاورًا الشيخ (أحمد ياسين):
يا ابن ياسين كم يمزق قلبي
ذل قومي ولهوهم والصدود
لو شكى كلب سائح أجنبي
لرأينا ما يصنع التهديد !
واليتامى من أمتي والصبايا
حظهن الإرهاب والتشريد
ثم يحضر الخطاب الاستفهامي الرامز للبطولة المنتظرة والمفقودة،
فيقول:
أين من أمتي عمير وسعد
والمثنى وخالد وسعيد ؟!
أين من قادة الجيوش صلاح
أين من ساسة البلاد الرشيد ؟!
إن قطز لما تهاوى تتار
عند أقدامه فعزت بنود ؟!
وهكذا نخلص إلى أن استدعاء الأبطال يكون رغبة للتشبه بهم، ورجوعا إلى ماضي العزة، وتمنيًّا لتعديل حال الضعف إلى حال قوة تنعم به أمتنا اليوم كما نعمت به أمس.
كل الحقوق محفوظة لمكتبة الملك عبدالعزيز العامة © 1446-2025