د. عبد الرحمن فراج *
إذا كان الاتصال العلمي هو ذلك النظام الافتراضي الذي تتدفق فيه المعلومات العلمية من القائمين على إنتاجها إلى المستفيدين منها، فإنه من الطبيعي أن يخضع لما يخضع له النشاط العلمي نفسه من تغيرات وتطورات، كما أنه من الطبيعي أن يكون في حراك دائم - تبعًا للتطورات التقنية والمجتمعية - لأن النشاط العلمي نفسه كذلك. والحال هذه فإنه ليس من الغريب أن يكون هذا الموضوع أحد أبرز الموضوعات على جبهة البحث في كثير من القطاعات الموضوعية وليس في مجال المكتبات والمعلومات فحسب، وأن يكون محلاً للطرح في الكتب والتقارير المنشورة بين كل فينة وأخرى.
ويعد "الاتصال العلمي في عالم متغير"، لـ "بالي دي سيلفا Pali U.K.De Silva و"كنداك فانس" Candace K. Vance(1) أحد هذه الكتب التي نُشرت في الآونة الأخيرة. وهو كتاب في تاريخ الاتصال العلمي وواقعه المعاصر، ويغطي القضايا الرئيسة في هذا المجال، ويكشف عن التحديات التي نشأت عن التقنيات الرقمية، كما يتوفر على تحليل الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والمؤسساتية للنشر العلمي لكل من الكتب والدوريات. ويهدف الكتاب إلى تزويد الباحثين ومدرسي العلوم ومديري الجامعات والهيئات الحكومية ومؤسسات تمويل البحوث وغير ذلك من الجماعات المهتمة، بنظرة عامة وتحليل نقدي للتطورات التاريخية والجارية والمناقشات الحالية ذات الصلة بالجوانب المهمة المتعددة للاتصال العلمي.
ويتكون الكتاب من 140 صفحة، ويشتمل - فضلا عن التمهيد والخلاصة والكشاف - على ثمانية فصول. وبالرغم من قلة صفحات الكتاب، إلا أن موضوعاته جاءت أقرب ما يكون إلى الشمول في تناول قضايا هذا الموضوع.
يتناول الفصل الأول التمهيدي "تطور الاتصال العلمي عبر المسارات المفتوحة"، في ستة عشر صفحة، الوصول الحر وغير المقيد للمعلومات العلمية وما يتصل بذلك من بعض المخاوف بشأن المشاركة المفتوحة في المعلومات العلمية، والمشاركة في البيانات العلمية وعلى الأخص الخصوصية والمشاركة في البيانات الوراثية، وحقوق الملكية الفكرية والاتصال العلمي وتأثير تلك الحقوق على المشاركة في البيانات، وقياس مدى تأثير البحوث العلمية.
فيما يتناول الفصل الثاني "منظور تاريخي للوصول إلى المعلومات العلمية"، في سبع صفحات فحسب وهو أقصر فصول الكتاب، المشاركة في المعلومات العلمية في القرون الثلاثة الأولى من النهضة الأوروبية (1600-1900م)، تم مراحل تطور الاتصال العلمي في القرنين العشرين والواحد والعشرين، وأخيرًا المناظرات التي جرت في السنوات الأخيرة - ولا زالت - حول الاشتراك في الدوريات العلمية المقيدة (أو ذات المنحي التجاري subscribed journals).
وتحت عنوان" حركة الوصول الحر: الطريق إلى الوصول غير المقيد للمعلومات العلمية"، جاء الفصل الثالث في خمسة عشر صفحة، وتعرض للمبادرات التشريعية وغيرها من المبادرات الداعمة للوصول الحر، والمبادرات الصادرة عن الباحثين ومؤسسات تمويل البحوث وغيرها من العناصر الناشطة في هذه الحركة، وقياس مدى تأثير دوريات الوصول الحر، وتأثير الوصول الحر على الدول النامية، ونموذجي الوصول الحر الأخضر والذهبي وغيرهما من النماذج، وأخيرًا العناية بجودة دوريات الوصول الحر ونزاهتها.
وتماشيًا مع التطورات الجارية في النشاط العلمي، أصبحت البيانات أحد أبرز مصادر المعلومات محلاً للاهتمام من قبل الأطراف الناشطة في هذا المجال، وهو موضوع الفصل الرابع" المشاركة في البيانات العلمية: الاتجاه نحو البيانات المفتوحة"، الذي انصب على مبادرات السياسات الداعمة للمشاركة في البيانات، ومشاركة مؤسسات تمويل البحوث وناشري الدوريات في هذه الحركة، وعادات الباحثين في المشاركة في البيانات وبصفة خاصة في مجالي البيئة والوراثة، ونشر البيانات والاستشهاد المرجعي بها، وما إذا كان هناك اتجاه فعلي نحو البيانات المفتوحة(2) .
وقد شغل الفصل الرابع خمسة عشر صفحة، وهو نفس عدد صفحات الفصل الخامس "التدفق الحر للمعلومات العلمية في مقابل حقوق الملكية الفكرية"، والذي تعرض لأنماط التعاون بين كل من الجامعات والمؤسسات الصناعية أو ما يسمى بإضفاء الصبغة التجارية على البحث الأكاديمي، وبصفة خاصة ما يتصل بذلك من التشريعات الحكومية لبراءات الاختراع وترخيص الاكتشافات العلمية الأكاديمية، والمناظرة الحالية حول حقوق الملكية الفكرية والبحث الأكاديمي، والآثار السلبية للبحث العلمي الناتج عن منح براءات الاختراع، والتأخر في الكشف عن نتائج البحث العلمي. كما تناول هذا الفصل حقوق الملكية الفكرية في علوم الحياة، وبصفة خاصة في البحوث الطبية الحيوية، والتطورات التقنية الحيوية في مجال الزراعة.
ويعد الفصل السابع "الحفاظ على جودة البحث العلمي: التحكيم العلمي للمقالات البحثية، أطول فصول هذا الكتاب حيث شغل سبعًا وعشرين صفحة، وتناول تاريخ التحكيم العلمي، والانتقادات الموجهة إلى هذه العملية الرئيسة في الاتصال العلمي، والتحيزات الكامنة فيها وبصفة خاصة التحيزات الناتجة عن هيبة باحث معين أو لانتمائه لإحدى المؤسسات الضالعة، والتحيز بين الجنسين، وتحيز التوافق ويعني التحيز ضد الدراسات التي تتعارض نتائجها مع الاتجاهات البحثية للمحكمين، والتحيز بسبب الاتجاه المحافظ للمحكمين، والتحيز ضد البحوث بينية التخصات، والتحيز في النشر ويعني إقبال الدوريات على نشر الدراسات التي تنتهي إلى نتائج إيجابية والتمييز ضد ما سواها.
كما تعرض هذا الفصل للتحكيم العلمي وتضارب المصالح، والأنماط المختلفة للتحكيم العلمي: ومنها التحكيم المغلق سواء كان مجهَّلاً من قبل أحد طرفي عملية التحكيم (الباحث والمحكم) أو كليهما single-versus double-blind peer review، والتحكيم المفتوح، والتحكيم غير الانتقائي، والنشر الفوري دون أي إجراء للتحكيم العلمي الرسمي. وتناول الفصل كذلك التلاعب في عملية التحكيم العلمي، ومدى أهمية استمرار النظام الحالي للتحكيم العلمي، والضغوط التي يتعرض لها هذا النظام، والأعباء التي تقع على كاهل المحكمين، وأخيرًا أساليب الارتقاء بهذا النظام وعلى رأسها تدريب المحكمين ونشر المعايير الأخلاقية بين المؤلفين والمحكمين ومحرري الدوريات. ولا شك أن هذا الفصل يلقي الضوء على كثير من ممارسين المحكمين في العالم العربي خاصة في المجالات الاجتماعية والإنسانية. وإذا كان السلوك البشري واحد في كل مكان، إلا أنه من الطبيعي أن تظهر التشوهات الأخلاقية في المجتمعات الضعيفة علميًا أكثر من غيرها.
تفيد الدعوات الرامية للانفتاح في نظام التحكيم العلمي إلى أنه سيجعله أكثر شفافية، ومن ثم سيكون بمثابة دفعة له للأمام
و"قياس مدى تأثير البحث العلمي " هو موضوع الفصل السابع الذي تعرض لبيانات الاستشهاد المرجعي كأداة لقياس مدى تأثير المقالات العلمية، ومعامل التأثير كمعيار لقياس مدى جودة الدوريات وبصفة خاصة مكامن القوة وكوامن الضعف في هذا المعيار، والإشكالات ذات الصلة بحساب معامل التأثير، واختلاف نتائج تطبيقه بين التخصصات العلمية المختلفة (وهو ما يسمى بتأثير التخصص العلمي على معامل التأثير). كما تناول الفصل الحاجة إلى مؤشرات أخرى لقياس مدى جودة الدوريات مثل معامل ايجين Eigenfactor ، ومعامل سايماجو لرتب لدوريات SCImago Journal Rank الناتج عن مرصد بيانات سكوبس، وقام المؤلفان بالمقارنة بين المؤشرين الأخيرين وبين معامل تأثير الدوريات. وأخيرًا تناول المؤلفان قياس مدى تأثير الباحثين سواء كأفراد أم مجموعات، وبصفة خاصة عن طريق مؤشر هيرش h-index ومتغيراته.
وجاء الفصل الثامن والأخير في خمسة عشر صفحة وهو نفس عدد صفحات الفصل السابع، كما جاء موضوعه" تقييم مدى التأثير الاجتماعي للبحوث العلمية" مكملاً لقضايا ذلك الفصل. وتعرض المؤلفان هنا لتحديات الوقوف على مفهوم الفوائد المجتمعية، وإستراتيجيات تقييم البحث العلمي الصادرة عن الهيئات الحكومية في بعض الدول.
ثم شغل موضوع مؤشرات تقييم التأثير العلمي بقية صفحات هذا الفصل، وتناول المؤلفان في ذلك القياسات البديلة لقياس التأثير المجتمعي، وعوامل القوة والضعف في هذه القياسات كأداة لتقييم البحث العلمي، والألتمتريقا Altmetrics كأداة استكشاف والارتقاء بمعايير الألتمتريقا ومصداقيتها، والعلاقة فيما بينها وبين قياسات الاستشهاد المرجعي الكلاسيكية، وإحصاء واقعات قراءة المقالات مقابل واقعات الاستشهاد المرجعي، وتأثير كل من التدوين الإلكتروني للعلوم Science Blogging والتدوين المصغر Microblogging على واقعات الاستشهاد المرجعي.
هذا ويقدم المؤلفان في كل فصل من الفصول الثمانية للكتاب، لمحة تاريخية عن القضية محل التناول، ومناقشة للممارسات والتحديات والاتجاهات والتحفظات ذات الصلة بالموضوع. كما ينتهي كل فصل من فصول الكتاب بملاحظات ختامية، ثم قائمة إضافية بالمراجع التي اعتمد عليها هذا الفصل.
ويُختتم الكتاب بما أسماه المؤلفان "أفكار أخيرة"، وذلك في أربع صفحات، وبدون قائمة للمراجع. وهذه الأفكار ما هي إلا خلاصة واستنتاجات أخيرة لما أُثير في الكتاب من قضايا، وعلى رأسها أن الانفتاح في النشاط العلمي يعد أحد أهم التغيرات المتسارعة في الاتصال العلمي في السنوات الأخيرة. وبالرغم من أن الوصول الحر، كمفهوم، يتفق مع أنساق الانفتاح في البحث العلمي، إلا أنه واجه في بدايته تشكيكًا بل ومقاومة من بعض القطاعات في المجتمع العلمي. ومع ذلك، يتزايد الوصول الحر بصورة مطردة بين كثير من أطراف النشاط العلمي، وأدى العديد من التجارب المبتكرة والجريئة إلى أن يصبح الوصول الحر ملمحًا لا غنى عنه اليوم في نظام الاتصال العلمي. ومع أنه لا زال هناك الكثير من التحديات التي ينبغي التغلب عليها، إلا أن كثرة دوريات الوصول الحر التي تحافظ على المعايير الرفيعة في نشرها وعلى رأسها اتباع التحكيم العلمي الصارم، واتجاه الدوريات التقليدية القائمة على الاشتراكات التجارية إلى توفير نظام هجين (أي نشر مقالات مفتوحة جنبًا إلى جنب المقالات المقيدة)، وغير ذلك من التطورات، يكشف عن القبول العام لمفهوم الوصول الحر، وأن النشر ذو الوصول الحر يدفع الدوريات إلى نظام اتصال علمي أكثر انفتاحًا.
وبالرغم من أن التحكيم العلمي يعد عنصرًا لا غنى عنه في عمليات النشاط العلمي، إلا أنه يواجه كثير من الانتقادات نتيجة أوجه القصور الكامنة فيه التي تتمثل في الأساس في الطبيعة المغلقة والسرية للنظام التقليدي للتحكيم والتي تتعارض مع أنساق الانفتاح في النشاط العلمي. ولذلك تفيد الدعوات الرامية للانفتاح في نظام التحكيم العلمي إلى أنه سيجعله أكثر شفافية، ومن ثم سيكون بمثابة دفعة له للأمام. والجدير بالإشارة إلى أنه بفضل التطورات التقنية، تم اختبار نموذج التحكيم العلمي المفتوح Open Peer Review OPR)، كما أنه تم تطبيقه بمستويات مختلفة من النجاح من قبل بعض الدوريات العلمية.
وهناك مخاوف بشأن مدى فعالية المعايير الحالية لتقييم مدى تأثير البحث العلمي، والآثار الناشئة عن استخدامها بشكل غير صحيح. إلا أنه لا زالت قياسات الاستشهاد المرجعي تعد حتى الآن أفضل الأدوات المستخدمة في هذا التقييم. ومن المهم التأكيد على أنه لاستخدام هذه القياسات بصورة صحيحة، لابد من الإلمام بكل من مكامن القوة وعوامل الضعف فيها. من ناحية أخرى، بعد استخدام القياسات البديلة (الألتمتريقا)، التي تعتمد بصفة رئيسة على واقعات التفاعل في وسائط التواصل الاجتماعي لتقييم مدى التأثير المجتمعي للبحث العلمي، مفهومًا منطقيا. ومن المهم أيضًا لفهم وتفسير واقعات التفاعل الاجتماعي هذه بصورة صحيحة، الوقوف على ما وراء الأرقام المجردة التي تمثلها. وإن كلاً من المجتمع العلمي، والمجتمع العام نفسه، بحاجة إلى الوضع في الاعتبار احتمالات الانتقاء في بت المعلومات الخاصة بالبحوث، وسوء تفسير النتائج، فضلاً عن احتمال التلاعب في إحصاء واقعات التفاعل الاجتماعي.
وبالرغم من أن المشاركة في البيانات أصبحت ممارسة منتظمة نسبيًا في المجالات المعتمدة بصفة أساس على البيانات، إلا أنها تطرح كثيرًا من التحديات ذات الصلة حيث أنها ممارسة معقدة، ومكلفة، وتستغرق كثيرًا من الوقت، خاصة في التخصصات العلمية التي لا تتمتع إلا بمشروعات بحثية ضئيلة الحجم. ومع ذلك، تتم إتاحة البيانات البحثية اليوم جنبًا إلى جنب المقالات ذات الصلة بها في بعض الدوريات والمشروعات العلمية، وظهرت دوريات البيانات Data journals كتطور حديث في النشر العلمي، كما أنه جنبًا إلى جنب الوصول الحر والتحكيم العلمي المفتوح هناك اتجاه نحو البيانات المفتوحة كتطور موازٍ يتبع مبدأ الانفتاح في النشاط العلمي.
هذه هي خلاصة أفكار هذا الكتاب المهم الصادر عن إحدى كبرى دور النشر العالمية (سبرنجر)، والذي يتميز - مع قلة عدد صفحاته - بتركيزه على بعض أبرز قضايا دورة إيصال المعلومات العلمية ونشرها وإتاحتها، ومدى تأثرها بتطورات التقنيات الرقمية، واللاعبين الرئيسيين في هذه الدورة الذين يحملون مسؤولية إدارتها وتوجيهها. وهو كتاب مفيد في تخصص المكتبات والمعلومات، ذلك المجال الذي يتعامل مع دورة المعلومات عامة، فضلا عن مجالات اجتماعيات العلوم وفلسفتها وتاريخها.
*قسم علوم المعلومات - جامعة بني سويف
المراجع
(1) كل من المؤلفين حاصل على ماجستير في المكتبات والمعلومات؛ وإن أضاف أولهما إلى ذلك دكتوراه في في العناية بالنبات، وأضاف الأخير إلى ذلك ماجستير آخر في اللغة الإنجليزية والكتابة الإبداعية.
(2) ويتصل بالتطورات العديدة في هذا الموضوع. ما أعلن عنه المعهد الوطني الأمريكي للسرطان " NCI" عام 2015 عن إنشاء منصة لمشاركة البيانات الوراثية والإكلينيكية، وذلك تحت اسم مرصد بيانات الجينوم العامة Genomic Data Commons ويعد هذا المرصد مكوِّنّا رئيسَّا في مبادرة "مون شوت" الوطنية لعلاج السرطان، التي كان يقودها جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، وفي مبادرة الرئيس الأمريكي باراك أوباما نفسه للطب الدقيق. وهو درس آخر مفيد عن وعي الحكام والمسؤولين وتسهم لمثل هذه المبادرات العلمية والمعلوماتية.
كل الحقوق محفوظة لمكتبة الملك عبدالعزيز العامة © 1446-2025