د. مازن موفق صديق الخيرو
أولا ً : فاعلية البنية اللسانية
إن الروايــة صادرة عــن دار فضاءات، عمان – الأردن (2017م) الطبعة الأولى، للروائية الفلسـطينية (شيراز عناب) وهي من القطع المتوسط،إذ بلغت (190) صفحة. إن بنية العنوان بنية جمالية وشعرية في آن، اكتملت فيها عناصر التشكيل الجمالــي، والغرائبية اللافتة للنظر التي بدورها تعد عنصراً ابتكاريــاً، وتوزعت الرواية عمومــاً على (30) مفتتحاً ســردياً، لــم تقســم الكاتبــة الروايــة إلــى فصــول صريحة دلالـة على التحرر من قيود الكتابة التقليدية، إن المفتتحــات بمثابة عتبات فصلية للدخول إلــى عالمهــا الســردي.
موضــوع الدراســة (الفضاء الكتابي) عبارة عن منظومة من الجمل التفسيرية للمتن بمثابة الاستهلال الخــارج عن المتن نصياً المرتبط بالمتن دلاليــاً وهــذا الاستهلال من العتبات النصية، بمثابة تلخيص للمتن الحكائي.
إن كل قــراءة نقدية حقيقيــة للعمل الفني لابــد أن تكــون ذات صبغــة جماليــة فــي صميمهــا؛ لأنهــا تعمــل علــى استكشــاف المكونــات الحميمة التي تضمن له فاعليته العالية وكفاءته الأدبية المستمرة (1).
إن المقصود من مصطلح (فاعلية) «مقدار التغلغل في المساحة السردية للدوال، وهي قدرة الإنتاج بأقل مجهود من الألفاظ « (2) و(الفضاء الكتابي) أي الفضــاء الدلالي يعد فضــاء ً معنوياً، فلا يتــم إدراكه إلا عبر علاقات دلالية تنشئها البنية اللسانية، و« الكتابة بالمعنى الواسع هي كل نسق سيميوطيقي مرئي ومكاني، وهي بالمعنى الحصري أيضاً، نسق خطي لتدوين اللغة « (3).
أول مفتتح للسرد نجده في: (أنت لســت بأكثر من حشـرة) جملــة اسمية، خطــاب انثوي ؛ فالذات تشــبه الدال اللغوي (المشبه) (أنت) الضمير المنفصل العائد إلى مؤنث مخاطب بالحشرة، فالدال المشبه نجده في (أنت) والدال (المشبه به) (حشرة) نكرة لتعم جميع أشكال الحشـرات المشار إليها إحاليــاً تحقيــراً، والأداة محذوفة (الكاف) أي كحشــرة، ووجه الشبه محذوف يمكن تأويله بمفهوم الإهانة والتحقير من قدر المخاطبة، إنها ردة فعل سيقت عندما عبرت الذات في أول مفتتح لها: (أوقفوا العالم أريــد الخروج منه) فجاء الرد بالتحقير لها بأسلوب التماثل الأسلوبي القائم على التشبيه، ومن أنت سوى حشرة، ويعد هذا المفتتح بؤرة الرواية ولــولاه مــا كان الرحيل إلى كوكب إسجارديا، فالنعت بالحشرة شكل دلالة الرفض وكذلك الرغبة بالهروب من هذا الحال إلى حال بناء كيان حر آخر.
المفتتــح الثانــي يتجسد في: (قــد غلبتني أيهــا الأحمــر) جملــة فعليــة أفادت التقريب بدلالة دخول الأداة (قد) على نسق الماضي (غلبتنــي) وأسلوب النــداء فــي: (أيهــا) والمنــادي (الأحمــر) وضمن محــور التجاور المقصــود من اللون الأحمر (النمل) ذكــر صراحة في المتن (قــد غلبتنــي أيها الأحمر... حقــاً أيها النمــل) كناية لونية عن موصوف، والغلبة غلبة مجازية فالنمل لا يغلب حقيقة وإنما فعــل النمل الداعي إلــى القوة الغالب، وأســلوب المفارقة فــي نــداء النمل بلونه، فالذات قالت (الأحمر) وأرادت النمل فنادته بألصــق صفة لــه، والمفارقة من أبرز مظاهر شــعرية الســرد ؛ تعادل فــي أهميتها الوظيفية الــدور الذي يقوم به المجاز في شعرية القصيــد، وذلــك لارتكازها علــى خاصية جوهريــة تتفق مع المجاز أنها: تقول شــيئاً وتقصد شــيئاً آخر (4) والمفتتــح الآخــر نجــده: (كنــت أرقــص كنحلة علــى زهرة / وأسير كنملة على هضبة / وأطير كفراشــة فــي واد ٍ ) مفتتح ثلاثــي الجمل، التشبيه بثلاث حشرات ولكن ليســت حقيرة كما صورت أم زينب ابنتها زينب بأنها ليست بأكثر من حشرة، فمــن الحشـرات مــن يرقص ويرتفــع ويطير ويمــرح (النحلة / والنملة / والفراشة).
إن المظهــر يعكــس العلاقــة القائمــة بيــن ضميــري الغائب (هــو) فــي البناء القصصــي وبين ضمير (أنــا) في الخطاب، العلاقــة بيــن الشــخصية القصصيــة والســارد (5) وهذا في ســياق المفتتح القائم على الصور التشــبيهية ؛ فنجد الصور تتوالــى، والابتداء بالضمير الاحالي (أنــا) في قولها: (كنت) مع اقتران ذلك بنســق الفعل الماضي، اســترجاع لحال سابق للــذات فيه كل مقومات النشــاط، فأنســاق الأفعــال تقودنا باتجــاه هذا الفهم (أرقص / أســير / أطيــر) وفيها التدرج فمن الرقــص يبــدأ فعــل الســير ليكــون فــي المحصلــة النهائيــة طيــران إلى الفضــاء الممتد باتجــاه المســتقبل (كنت أرقص كنحلــة علــى زهــرة) ومحــور التماثــل الأســلوبي القائم على التشــبيه، فالمشبه الضمير المســتتر (أنا) العائد على الذات القصصيــة، والمشــبه به (نحلــة على زهــرة) والأداة (الكاف) ووجه الشبه محذوف يدل على النشاط الذي تتمتع به الذات في سابق عهدها بدلالة الفعل الماضي (كنت) وبدأ المفتتح بالتشــبيه بالنحلة لخصوصية المشــبه به ؛ فالنحلة رمز أنثوي منتــج غاية الإنتــاج ويمتاز بالحيوية الكامنة في إنتاج العســل بكل متعلقاته الإنتاجية، ويدل نســق المضارع (ارقص) على الراحــة فــي توظيــف تلك الطاقــة الكامنة في ذات المشـبه والمشــبه بــه والســطر الثانــي من هــذا المفتتح جــاء مؤطراً بأســلوب التماثــل فــي (وأســير كنملــة علــى هضبــة) ابتداء هذا الســطر بالاقتصاد الأســلوبي المســمى فــي المدونة البلاغيــة (إيجاز الحــذف) حذف بعض الــدوال والتقدير: (كنت أســير) فقد حذف الفعل (كنت) ويبقى المشبه ذاته الضمير (أنــا) والمشــبه به (نملة على هضبــة) والأداة (الكاف) ووجه الشبه التحدي الذي لا يقف أمامه عائق، واختيار الذات للنملة دون غيرهــا وهــي تصطــف إلــى جانــب النحلــة ضمــن محور الاختيار لم يكن اعتباطياً، فكلتيهما رمز أنثوي، والنملة ضمن هــذا التــدرج تواجــه تحدياً يمتــزج بتحدي الــذات، فهي ووفق مــا تمتاز بــه من صغر حجمها إلا أنها تســير على هضبة فرق شاسع فحجم التحدي لا يتناسب مع حجم النملة ؛ لكن الإرادة ذللــت الصعوبات فســارت الــذات ونملتها باتجــاه هضبتهما الأمل بالمســتقبل والطموح نحونجاحــات جديدة، ويؤكد هذا المعنى الســطر الثالث في قولها: (وأطير كفراشة في واد ٍ ) فتأتــي الفراشــة لتقــف إلى جانب كل مــن (النحلــة / النملة) فيكــون لدينــا ثلاثيــة تنموية إنتاجية تعــد مثـالا ً عميقاً على النشــاط، و نجــد إيجاز الحذف في حذف الـدال الفعلي (كنت) لدلالة السياق الخطابي عليه، والمشبه يتكرر الضمير (أنا) والمشبه به (الفراشة في واد ٍ ) والأداة (الكاف) ووجه الشبه يؤطره الرمــز الأنثوي الفاعل المنتج الفراشــة الغائصة في عمــق ذاتهــا بحثاً عــن الحقيقة والجمــال (وأطير كفراشــة في واد ٍ ) نجد في هذا المفتتح صيغ التوازي التعبيرية التي ترتكز على عنصر التشابه بين صيغ تعبيرية لفظية تتمفصل داخل ظــروف خطابية متماثلة، وما التكرار للصور التشبيهية إلا دليل عليها(6).
ثانياً: فاعلية البنية الدلالية (السياقية)
إن عمليــة التمييز بيــن السياقات الدلالية تستلزم وجــود (المؤشــر الأســلوبي) مــن خــال المواقف والأحــداث التي تقــوم بهــا الشخصيات وملاحظة مصبهــا الدلالــي تكــون مؤشــراً أسلوبياً على نوعية السياق الذي يقود بنية السرد، وإن مؤشــر هــذه الروايــة يؤط ّ ــر لمفاهيم الــذات والحرية والخاص. تركت الذات كونها الذي يحتويها ولا تعرفه، لتبدأ البحث عن ذاتها، ما ت ُ بنى عليه الرواية أن تكون ما أنت َ مخلوق ٌ لأجله ومقدر ٌ لك َ شيئاً من غير السهل تحقيقه وكل ٌّ منا يبحث عــن مدينتــه الفاضلــة فــي ذاتــه أولا ً وفي محيطه الخارجي ثانيــاً. ومــن هنا بدأت الكاتبة لعبتها الثائرة على الصمت في نسج أحداث روايتها التي تسبر أغوار الذات، وتفتش عن الخــاص الذي ينشده كل ّ فرد منا، وقلة ً الذين لا يتورطون في الضياع قبــل أن يصلوا إليه، ولا يصلون. وإسجارديا كوكب الخلاص لـ «شيراز»، استطاعت من خلاله البحث في المنظور الأخلاقي الاجتماعي والنفسي الذاتي والزمني الكونــي عــن الارتقاء إلــى منزلة النقاء، والنتيجة وبعد هذا الضياع الذي عصف بها في رحلة البحث والتشتت والإنكار، أن وجدت ما بدأت من أجله، وجد َ ت ذاتها في كوكب ٍ اختلقت معالمه من وحي اكتراثها ونسج حريتها وتمردها، لتصل إليه، وبكامل وعيها الأنثوي الذي يقربها من ذاتها المفترضة بقدر ما يمنحها حريتها، الرحيل عن الذل إلى أفاق التجلي والحرية، رحلة الكشف عن عالم الحب ّ والفضيلة لتكتمل الحياة.
عنــد معاينة البنية الدلالية السياقية التي تضمنها كلامنا حــول الروايــة نجدها تصب في عدة سياقات (نفســية / اجتماعية / تاريخية / أسطورية / عاطفية / دينية) إذ نجد بأن الدلالات الاجتماعية والنفسية والتاريخية والأسطورية والعاطفية والدينية تتراءى على مستويين: الأول: محله مــادة الخطاب الروائي ذاتها، والثاني نرصده من خــلال حركة الشخصيات ومصائرها من خلال مضيها باتجاه محدد أو سياق دلالي معين ؛ فبالنسبة للسياق النفسي نجده ماثلا ً في أعماق اللغة ومكنوناتها في اللاشعور ؛ إذ يتطلب من القارئ الغوص فيما وراء اللغة لاســتكناه الأبعاد الخاصة بالسياق النفســي، وقــراءة الخطــاب وفــق الرؤية النفســية (السيكولوجية) يعطينا قراءة خاصة في الصياغة الفنية التي تحمل في ذاتها رؤية العالم الإنساني الخفي (7) وإن مجال علم النفس يوصف بأنه يتصل بمجموع الوظائف النفســية المركبـة من مفاهيم معينة كالفهم والتفكير والتخطيط وحل العقد والمشكلات (8)، ويمكن القول بأن علم النفس يقوم علــى مجموعــة مــن الطاقــات التــي تؤطر الحياة الإنســانية وهــي أســاس الوظائــف التي تقــوم عليهــا حياتنا النفســية (9)، وهــذه الطاقــات لا تظهر حســياً فهي كامنة في اللغة وتحتل المكانة الأرقى لأنها الوجه الحقيقي للذات المعبرة.
تتجسد أولى الملامح النفســية في خطاب الفضاء الكتابي في أول مفتتح قول الذات: (أوقفوا العالم أريد الخروج منه) إنها غريزة البقاء وحب الحياة، فعملية الخروج من عالم الأرض إلى كوكب (إســجارديا) الفضائي بمثابة ترسيخ لهذه الغريزة، وغريزة البقاء تضادها غريزة الموت في الطرف الثاني التي تظل تطارد الذات وتسبب لهــا المعاناة المســتمرة، ونلحظ نزعات الأنثــى الخالدة التي تمتاز بديمومة الخصوبة في قول الذات في ثلاثية الصور التشبيهية: (كنت أرقص كنحلة على زهرة وأسير كنملة على هضبة وأطير كفراشة في واد ٍ ) ومــن النزعات الأخرى النزعة النرجسية و ســلطة التملك في قول الذات في عدة مواضع :
(وأنا عاشــق لأسطورتي سأطاردها أينما هي تكون سأكون) وفــي موضع آخر :(كنت أبحث عن أسطورتي فإذا بي أبحث عن وجودي)
إن أســطورة الذات المقصودة هي ذلك الكوكب (إسجارديا) وأســطرة الخطــاب « يظـل أقــرب إلــى مــا يســمي الناقــد الكنــدي « نورثــروب فــراي « بالقــص الصائب الخالــد، المعبر عــن روح المجتمعات وأســاطيرها الثابتة فــي جوهرها، مهما تغيــرت ملامحها الخارجية على اعتبار أن لكل مجتمع إنســاني – كمــا يقــول – شــكلا ً متميــزاً مــن الثقافــة اللغوية، تحتــل فيــه الحكايات والروايات مكاناً بارزاً، ويظهر بأهمية قصوى ؛ إذ يمثــل مــا يتعلــق بالمجتمــع فــي الدرجــة الأولــى، ممــا يجعلها قابلة لشــرح عــدد من السمات الجوهرية المتعلقة بالدين و القانــون والأبنية التاريخية والاجتماعيـة والكونيات العظمـى « (10)، والذات تتخذ منظــوراً محــدداً تــرى مــن خلاله الشــخصيات والأحداث والأشياء وحركة المجتمع ؛ فقد امتلكت الجانب الفنــي وكانت أكثر حداثة وفلسفية ؛ فهي تتخذ تقنية مفتتحات السرد وسيلة لتركيز حالتــي (الوعي / اللاوعي) للمتلقي ليحلق في قــراءة المتغيرات الاجتماعية والنفسية والتاريخية.
وفــي موضع آخر: ((كانت معارفي من غير أن اعرف وأفكاري قبــل أن أبــدا التفكير)وفي موضع آخر: (هــذه الأنثى تختصر بوجودها كل الرسالات وأكثر الأعيان).
المراجع :
ينظــر: أســاليب الســرد فــي الروايــة العربيــة، د. صلاح فضل، دار المدى للثقافة والنشر، ســورية – دمشــق، بيروت – لبنان، ط1، 2003 م: 15.
معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة: 170.
ينظر: مفاهيم سردية، تزفيطان تودوروف، ترجمة: عبدالرحمــن مزيــان، منشورات الاختلاف – سلســلة اللغة الأخرى، الطبعة الأولى، 2005 م: 11.
ينظـر: بنية النص السردي (من منظور النقد الأدبي)، د. حميد لحمداني، المركز الثقافي العربي، بيروت – لبنان، ط 1، 1991: 32.
ينظر: طرائق السرد الأدبي – دراسات، منشورات اتحاد كتاب المغرب - الرباط، ط1، 1992م : 58.
ينظر: المصدر نفسه: 43.
ينظر: الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي، د. عبدالقـادر فيدوح، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1992 م: 11.
ينظـر: بلاغــة الخطــاب و علــم النــص، د. صــلاح فضل، سلســلة عالــم المعرفــة، الكويــت، العدد (164) لسنة 1992 م: 245.
ينظر: الموجز في التحليل النفسي، سيفموند فرويد، ترجمة: د. ســامي محمود علي وعبد السلام القفاش، مراجعــة: د. مصطفــى زيور، دار المعارف بمصر، ط 4، 1998 : 34 .
أســاليب الســرد فــي الرواية العربيــة، د. صلاح فضل : 17
كل الحقوق محفوظة لمكتبة الملك عبدالعزيز العامة © 1446-2025